وهذا المثال مع الأسف هو وقلة الحرص على المال كأنهما أمران عامان في كثير من أبطال العلم وخدمة الأوطان.
عفوا! أيها السادة، ليس فتحي في عداد الموتى الذين يؤبنون بقولة واحدة تردد لكل منهم على السواء: كان وكان ... وعليه الرحمة والرضوان. إن فتحي ليس ملكا لأهله وأصدقائه بل هو ملك التاريخ، وبهذا العنوان يجب علينا دراسته، إنه صورة كبرى من أكبر صور النبوغ المصري بروزا وأولاهم بالعناية والدرس، إنه رجل كبير، كبير في عقله وفي عواطفه بل في أطماعه أيضا، وما كان يبين عليه أن اقتناء المال داخل في برنامج أطماعه، أقول وليس هو في هذا المعنى استثناء من عظماء الرجال أمثاله، أولئك الذين ماتوا ولا أصفر ولا أبيض، كأنهم الأنبياء لا يورثون، فإن لم يتركوا تراثا تركوا مجدا خالدا.
نعم إن أطماع فتحي باشا كانت كبيرة متناسبة مع كفاءته وثقته بنفسه ولكنها لم تكن من الأطماع الشخصية في شيء، إنه كان يألم لما نحن فيه ويرجو أن يكون له من السلطة ما يسهل لقومه سبيل التقدم إلى الأمام، قد تكون هذه العلة هي العذر العام الذي ينتحله كل المغرمين بالمناصب العالية.
ولكن فتحي ليس من هؤلاء؛ لأنه كان ينفذ الخطة التي رسمها لمشاغله العمومية، فأخذ يسهل التقدم بقلمه، ومن الطبيعي أن يرجو أن يسهله بعمله أيضا، فيكون بذلك قد جمع بين سببي النفع، لا كصديقه روسو الذي قال: لو كنت شارعا أو أميرا لاعتضت عن الكتابة في السياسة بتحقيق ما أقرر من المبادئ، على أني يجب علي في هذا الموقف أن أسارع إلى التصريح بأن فتحي لم يقدم بين يدي أطماعه إلا كفاءته، أما شخصيته واستقلاله في الرأي فلا دخل لهما في هذه الصفقة، بل ربما كان حجر عثرة في سبيل ارتقائه.
على أن فتحي باشا مهما كان محسود القدرة، فإنه كان دائما عمدة الحكومة في كثير من المشروعات الدقيقة التي تحتاج إلى مفاوضات بين جهات مختلفة وموضع الاستشارة عن نظارته وغير نظارته في وضع القوانين، كما تشهد به الألسن الرسمية والتقارير الرسمية.
أيها السادة، كنا نكرم فتحي باشا في نحو هذا الأوان من العام الماضي ونتوج مؤلفاته، وها نحن أولاء جئنا اليوم نؤبنه ونتأسف على وفاته، فما أقل هذا الوجود حرصا على الرجال النافعين!
أيها السادة، إن صورة فتحي باشا الذي اشترك في رسمها جميع خطباء هذه الحفلة الممثلين للمعاني والطبقات المتباينة، صورة ندخرها عند الزمان على أنها طليعة النهضة العلمية وأثر من آثار المجد المصري الفخيم، ولتكون قدوة للنابغين من أبنائنا على مر الزمان، فاللهم لعبدك الأمين في خدمة العلم رحمة، ولبلاده عزاء، إنك أنت السميع المجيب.
الحرب1
وقع ما كان يخشاه العالم بأسره، وعم الخطب ولم يبق بعد سبيل إلى السلام، فلم يكن لينتظر أن الخلاف المحلي الذي قام بين النمسا والصرب يصل إلى هذه النتيجة السوداء على العالم، وهنا مورد المثل المشهور: ومعظم النار من مستصغر الشرر.
اليوم وإلا أبدا، وفي هذا الحادث وإلا فلا، تلهب أوربا شرارة واحدة ويعم العالم بأسره الضرر البليغ بحجة أن صربيا والنمسا لم تتفقا على الوسائل القضائية لمحاكمة في جناية!
صفحة غير معروفة