لو أن السلطة الشرعية والسلطة الفعلية متفقتان على أن السودان جزء غير منفصل عن مصر، وأنه لا فرق بين مديرية الخرطوم وبين مديرية أسوان، وأن عقد الاتفاق المبرم بين الحكومة المصرية وبين الحكومة الإنجليزية باطل، وأن السودان ليس وطنا خاصا ومستعمرة بل هو إقليم من الأقاليم المصرية وجزء من الوطن المصري تحت سلطة القانون المصري، لو كان الأمر كذلك لما كان إبعاد المسجونين فيه نفيا لا تبيحه قوانين البلاد، ولكنا نحن أول المبررين لعمل الحكومة من هذا القبيل، فأما والاتفاق السوداني منفذ بين الحكومتين، والسودان غير خاضع للقوانين المصرية، فإنه لا يجوز اعتبار السودان جزءا من مصر فيما يضرنا، واعتباره منفصلا عن مصر فيما ينفعنا.
يضحكنا أن يرد على بعض الأذهان أن تصرف الحكومة هذا قد يعتبر سابقة تنفعنا هي ومثيلاتها يوم إقامة الدليل على أن السودان جزء من مصر! كلا إنه لا مصلحة للضعيف من مجاوزة الحق إلى ميدان القوة؛ فإن الحق هو قوة الضعيف، فإذا جاوزه إلى غيره، فإنما هو يجرد نفسه من كل سلاحه، ليحارب القوة بالضعف المجرد.
ومهما كانت العيوب الأصلية في اتفاق السودان، فإن الواقع أن العمل جار عليه، فإذا كانت الحكومة المصرية توافقنا على أن فيه من العيوب القانونية ما يبطله وتعدل عن تنفيذه، يصبح قولها مقبولا في أن إبعاد المسجونين إلى السودان ليس فيه مجاوزة لحدود القانون ولا اعتداء على الحرية وحقوق الإنسان، ونحن نعيذ الحكومة من أن تعمد في تبرير عملها هذا إلى التحدي بهذه النظرية؛ لأنه لا يفسر في البيئات المصرية إلا بأنه استخفاف بالرأي العام، وحكومتنا أعلى مقاما وأكثر بصيرة من أن تعرض نفسها إلى مثل هذه النتيجة.
وكل ما يقال في الموضوع أن الحكومة تعجلت في الأمر، وفي قدرتها أن ترجع أولئك المنفيين من السودان احتراما للقانون، أما نحن من جهتنا فنقول: لو أن لنا دستورا لما أمكن أن يقع من ذلك شيء.
ومن أجل ذلك نطلب الدستور.
حقوق الأمة1
قد تجاوز الحكومة عندنا حدود القانون، لا حبا في إذلال الشعب ولا إظهارا لعظمتها واستهانتها به، ولكن لما يظهر لها من وجوه المنفعة العامة كأنها ترى أن المنفعة هي كل شيء وغير المنفعة لا شيء، صحيح أن منفعة الأمة بوجوهها المادية والمعنوية هي كل شيء؛ ولكن من هو الحكم مرضي الحكومة في تقدير منفعة الأمة؟ تلك هي المسألة، وذلك هو الفرق بيننا وبين الذين يظنون أن حكومة المستبدل العادل هي خير الحكومات.
نقول: إن نظرية الاستبداد بالأمر على مبادئ العدل نظرية خيالية؛ لأنه لا يعرف التاريخ حكومة من هذا الصنف، بل كانت الحكومات المرضية كحكومة الخلفاء في صدر الإسلام، بعيد عليها أن تكون مستبدة؛ لأنها كانت خاضعة في كل تصرفاتها الاجتماعية والسياسية لكتاب الله وسنة نبيه، ولا نعرف عن الخلفاء الراشدين أنهم تعدوا في تصرفهم حدود الله ولا غمطوا حقوق الأمة ولا حقوق الأفراد المقررة في الشريعة الغراء بحجة أنهم إنما يتعدون حدود الله لمصلحة الرعية؛ لأنه لا مصلحة للرعية من تعدي الحاكم حدود الشرع، وغير هذه من الحكومات المستبدة ما كانت عادلة، فما أظن مذهب (الاستبداد العادل) في عقول أنصاره إلا أمنية يتمنونها لمثل أعلى من حكومة موحدة الكلمة قوية البطش بعيدة عن الشهوات الحزبية والفردية سريعة الحركة لا بطيئة كالحكومات النيابية، عادلة لا تنحرف عن جادة العقل أبدا، تصوروا هذا المثل الأعلى فلم يجدوا له صيغة إلا ما سموه (حكومة المستبد العادل)، وها نحن أولاء قد جربنا الاستبداد ورأينا تجارب الأمم في الاستبداد وفي الحكومة النيابية، فخرجنا من هذه الأمثلة نمقت الاستبداد ونحب الحرية ونود بكل شيء لو نخرج من حكومة الاستبداد إلى الحكومة النيابية أو حكومة الأمة.
هذا هو الواقع من أمرنا ومن أمر كل الأمم، وبعيد أن نرجح ذلك المذهب التصوري الصرف على هذا المذهب، مذهب الحكومات النيابية التي أثبتت التجربة أنه أفضل طرائق الحكم.
على أن منافع الأمة ليست كلها منافع مادية، إنما الأمة أفراد ليست حياتهم في الحقيقة إلا مشاعر، فهم في الحكومة الاستبدادية في شعور بالذل والعبودية يقبض الصدر ويحبس الملكات ويكره المرء في عيشته، يكرهه في عيشة ليست له، فإنه إنما يعيش على خطر أن يصلب أو ينفى أو يجرد من ماله لما تراه الحكومة من منفعة الأمة في الصلب أو النفي أو التجريد من المال، حياة جربت، فكانت نتيجتها اللازمة جمود القرائح وفساد القلوب، فلو أننا قارنا حال الأمم المتمدنة تحت حكومات الاستبداد وتحت الحكومات النيابية، لوجدنا أنها تحت الأولى كانت في نوع من الجمود أكبر مظاهر الرقي فيها التقدم الصناعي لإرضاء شهوات الملوك والحكام من الزينة والزخارف في العمارات، أما تحت الحكومات النيابية فكان العقل البشري قد فك من عقله فنشط يأتي بالمعجزات الواحدة تلو الأخرى، والواقع أننا لا نعرف سببا جديا لهذه الروح الجديدة التي تجلت على مدينتنا الحديثة فجعلت الإنسان ملكا حقيقيا يسخر كل قوى الطبيعة لمنفعته حتى حقق خيال الكتاب السابقين، فإن كتاب العصور الأولى كانوا يظنون طيران المرء في الهواء حلما جميلا وخيالا عن الحقيقة بعيدا، ولكنه اليوم وما سبقه من المعجزات الحديثة حقائق راهنة.
صفحة غير معروفة