ومن الأمثلة أن الحكومة أو الجمعية لم تحم مال جميع الأفراد الذين سلبت من حريتهم ما سلبت، فسيقولون: إن بوليسها يخف في طلب السارق، هب أنها فعلت ذلك فما فائدة المسروق منه من وضع السارق في الحبس مدة يعود بعدها إلى ارتكاب الجنايات، على أن إحصاء المحاكم يدل في بلادنا على أن أكثر حوادث القتل لم يعاقب فيه القتيل، أما في السرقات فما أظن أن البوليس رد إلى المجني عليه ما سرق منه ولو في واحدة من المائة، فإذا كانت الحكومة أيا كان شكلها أعجز من أن تحمي حياة الفرد دائما وماله في بعض الأحيان، أفلا يكون من الغبن الفاحش أن تأخذ الحكومة بقوانينها من حرية الأفراد أكثر من القدر الذي توجبه الضرورة، ضرورة البوليس، أو ضرورة إقامة العدل، أو ضرورة الدفاع عن البلاد!
الفرد والجمعية من حيث القوانين طرفان متضادا المنفعة، يجب التوفيق بينهما ولا توفيق إلا التصالح أو التنازل من الجانبين، ولا شيء يبرر ذلك إلا ضرورة الجمعية أي ضرورة النظام، فلا يجوز للحكومة - ما دامت هي ضرورة - أن تعمل عملا أو تشرع قانونا فيه معنى التسلط على الفرد إلا في حدود الضرورة القصوى، خذ مثلا على ذلك: بعث قانون المطبوعات، هب أن بعض الصحف تطرفت في النصح إلى الدرجة المضرة بالجمعية، فما ذنب بقية أفراد الأمة يرمون بقانون يحد أعلى مظهر من مظاهر الحرية الشخصية وهي حرية القلم وحرية الرأي؟ أظن أنه لم يكن ثمة ظل ضرورة يلجئ الحكومة إلى هذا القانون؛ لذلك يرجو الذين يظنون بها الخير أن تلغيه اليوم وغدا.
ومثلا آخر: قانون الاتفاقات الجنائية، هب أن ثلاثة أو أكثر اتفقوا على ارتكاب جناية سياسية تهدد الحكومة في وجودها، عاقبوهم بما شئتم، ولكن ما ذنب جميع أفراد الأمة يرمون بقانون الاتفاقات الجنائية من غير مسوغ، إن ضرورة النظام لا يكفي فيها مجرد توهم الحكومة أن رجالها في خطر، فتبالغ في تشديد الخناق على حرية الأفراد حتى تحظر عليهم اليوم ما كان مباحا لهم بالأمس، وتعاقبهم على ما لم يكونوا يعاقبون عليه من غير ضرورة ظاهرة.
يبين مما نقول أننا نفضل مذهب (الحريين) أو (الفرديين) على مذهب (الجماعيين) الذين يضحون الفرد ومصلحته للمجموع من غير قيد ولا شرط، ويعتبرون الفرد ليس له وجود ولا راحة وسعادة، إلا بوصف كونه جزءا من المجموع، يقولون ذلك وينكرون المحسوس، والواقع أن لكلا المذهبين منافع ومضار، ولكن مذهب الفرديين أنفع في بلادنا في الظروف الحاضرة من كل ما عداه، ولكننا مع ذلك لا نرى تطبيق هذا المذهب على إطلاقه، فإنه لا يزال في حال الأمة ما يدعو إلى أن تهتم الحكومة بالمداخلة في بعض الأمور غير الداخلية في واجباتها الثلاث المتقدمة مداخلة حث وإرشاد لا مداخلة حكم وإكراه، فإن المداخلة من هذا النوع قد تبررها أيضا ضرورة علاج الأمة من الخمول الماضي العميق.
نقدم هذه المقدمات الطويلات لا لمجرد الانتصار لنظرية علمية على أخرى؛ بل لأننا نشعر في البلاد بتيار قوي من جانب الحكومة ومن جانب بعض الأفراد مآله قرب السير على مذهب (الجماعيين) فإنهم يطلبون من الحكومة التقنين والمداخلة الفعلية في أمور لا تبررها الضرورة، والحكومة تطاوع في ذلك فتتدخل فيما تقل كلفته عليها وتكثر به سلطتها إجابة لطلب الأمة، ولكنها مع ذلك لا تجيب طلب الأمة فيما طلبت من الدستور.
ومن المضحك في هذا المقام أن نذكر السبب الذي أبدته الحكومة لتبرر به بعث قانون المطبوعات، السبب أن الجمعية العمومية كانت طلبته في قديم الزمان، كأنها تقول يعز على الحكومة أن لا تخف لإجابة رغبة الجمعية العمومية الممثلة للأمة في تضييق الخناق على دائرة الحرية الشخصية التي هي أساس كل صلاح للأمم؟! للأمة أن تطلب الإشراف على أعمال الحكومة وتجد في هذا الطلب ولكننا نحن الأفراد نطلب من الحكومة - والحكومة في بلادنا سمو الخديو والوزارة والجمعية التشريعية - أن لا تفرط في التعدي على حريتنا بالإكثار من القوانين إلا في حدود الضرورة، وأن تعاوننا نحن الأفراد على أن نستكمل حظنا من القوة العملية بالكف عن المداخلة في الشئون التي من شأنها أن تترك لعمل الأفراد مهما كان أثر المداخلة مفيدا لمصالحهم؛ لأنه لا مصلحة للفرد تعدل مصلحته من القوة والاستعداد للمزاحمة للحياة.
مثال ذلك مداخلة الحكومة في مراقبة حال الطلبة المصريين في أوروبا، فإننا إذا رضينا بقيام الحكومة في مصر بأمر التربية والتعليم وهما من عمل الأفراد؛ وإذا رضينا بذلك اعتمادا على أن الأمة لا تزال محتاجة إلى مثل هذه المساعدة، فلا يمكننا أن نفهم ما الذي يسوغ لنظارة المعارف المداخلة في التوسط بين الرجل وبين ابنه الذي يتعلم في أوربا على نفقته مداخلة لم يرضها الطرفان، أو التوسط بين التلاميذ المصريين ومدارسهم ولم يطلب منها أحد الطرفين هذه المعونة، إذا رضينا أن الحكومة تكون تاجرة تمسك بين يديها السكة الحديد، وإذا رضينا بذلك اعتمادا على أنه ليس في البلاد شركة مصرية صرفة يمكنها أن تقوم بهذا العمل العظيم تشتري السكة وتديرها، فإننا لا يعجبنا مثلا ما يشاع من أن الحكومة ستزرع على ذمتها أرضا من خارج الزمام وأنها تبقي في يدها أطيان الدومين تستغلها وتزاحم الأفراد المزارعين في الاستغلال ... إلخ.
لذلك نكرر أن التيار الذي يتمشى الآن في الحكومة وفي الأمة نخشى أن يفضي إلى جعل خطة الحكومة هي خطة التسلط على الأفراد والتضييق عليهم للمصلحة الموهومة للجمعية، وما مصلحة الجمعية إلا في أن الحكومة - وهي موجود ضرورة - لا يحل لها أن تخرج في قوانينها ولا في تصرفاتها عما تلزمها به الضرورات احتراما لحرية الأفراد ومصالحهم.
خبز السجون1
هذا الخبز الضار لا ندري أنكال فوق العقاب أريد بأهل السجون، أم محض اقتصاد في النفقات! شكا منه أهل السجن وجيء لنا منه بعينة ذات لون قاتم وملمس خشن تقطع شهوة النهم وتعافها الكلاب، فشكونا منه إلى أولي الأمر فيه، ووعدنا من بضعة سنين بتحسين حاله فخفت صوت الشكوى ثم زال، وكان الناس في اطمئنان على صحة ذلك العدد الكبير من المسجونين، فإذا بنا اليوم نسمع صوت الدكتور نيدل ترجعه رصيفتنا (البروجريه) إن خبز السجون سم قاتل: قالها الدكتور لا أخذا بظاهره المؤذي، ولكن بعد بحث وتحليل، قولة تخلع قلوب الناس على أبنائهم، وتفزع منها أهل العدل وأولي الرحمة بعباد الله فلا مناص للحكومة من تغييره في الحال أو تحليله ونشر نتيجة التحليل.
صفحة غير معروفة