على الرغم من الضعف الذي وقعت فيه مصرنا، فمن المحقق أن المصري تأخذه هزة الارتياح ويلعب به شعور العزة أمام عظمة المصريين القدماء، ويكون حظه من شعور الفخر أكبر من ذلك، لو أنه عالم بالحوادث المصرية المكتوبة على حيطان المعابد والمحاريب ووجهات القبور، أو قارئ ترجمة تلك النقوش في أشعار المسيو ماسبيرو ومارييت ونافيل ومحاضرات كمال بك ، إذ يعلم أن مصر كانت من العزة في ذلك الزمن الغابر على قدر أن الملك كان له نحو اثني عشر رجلا من الأمراء وغيرهم يقومون بأمر التشريفات، يصل إليه سفراء الممالك الأخرى راكعين ساجدين، يرغمون أنوفهم بالتراب، ويجأرون له بالدعاء، يقطع أصواتهم خوف الملك وجلالته. وأن الملك لم يكن كل شيء في مصر بل كان لأمراء الأمة ووزرائها في كثير من الأحيان أثر عظيم في الإصلاح وفي الحكم، وأن المصريين لم يكونوا - على ما يصفهم عامة الأجانب - مخلدين إلى السكينة كارهين السياحة والتنقل قانعين من الرزق بما تحت متناول اليد، بل كانوا أمة جد واستعمار تجري في استعمارها على أحدث الطرق الأوروبية الآن، إذ يخرج المرسلون من مصر إلى الأقطار المختلفة في إفريقية يجوسون خلالها حاملين إلى أهلها العطر ذا الرائحة النفاذة والأقمشة الزاهية الألوان وغير ذلك مما يحمله الأوروبيون في هذا العصر إلى سكان تلك الأقطار الشاسعة في أفريقية.
ولم تكن أغراض المصريين من فن السياحة قاصرة على الربح التجاري، بل كان أولئك السياح يكسبون بلادهم نفس الفوائد التي جنتها إنكلترا من وراء الشركة التجارية الإنكليزية في بلاد الهند قبل فتحها، وسياحات سيسل رود، وما كسبته فرنسا من بعثاتها في الكونغو والسودان، إذ كان السياح المصريون يدعون الناس لاستماع أخبار مصر والمصريين ودينهم ولغتهم ويبينون عظمة ملكهم وثروة بلادهم حتى يصوروا مصر في أذهان القبائل بصورها القوية القاهرة التي لا يعجزها تحقيق شيء مما تريد، فإذا رجع أولئك المرسلون إلى مصر وصفوا تلك البلاد وأفاضوا للحكومة بكل ما وصلوا إليه من المعلومات فتسير الجنود المصرية على أثر ذلك تفتح البلاد النائية التي صار فتحها بفضل معلومات السياح أمرا هينا، ولقد كان المصريون أسمح الأمم في استعمارهم؛ لأنهم كانوا يسيرون فيه على مذهب اللامركزية يحفظون على الأمة المغلوبة دينها وعاداتها وشكل حكومتها، ويتركونها حرة في بلادها مقابل الاعتراف بالسيادة المصرية، وكما أن مصر تحمي المستعمرة من الاعتداء الأجنبي، كذلك كان يجب على المستعمرة المصرية أن تتعهد بدفع خراج سنوي، وأن تنصر مصر في حربها مع أية دولة أخرى.
لا شك في أن علم المصري بهذه الحقائق المسطورة في نحو القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد، يخرج من نفسه القنوط من ارتقاء مصر، ويجعل آراء الذين يظنون بمصر عدم الاستعداد الطبيعي للاستقلال والسيادة من السخافة بمكان، فإن ما جاز عليه الكون في الماضي، غير ممتنع عليه أن يكون، ولا شك في أن المصريين حتى المتعلمين قليلو الاهتمام بالعلم بمصر القديمة إلى حد حرمنا لذة هذا الاغتباط بما كنا عليه، ولذة التشبث بالعمل إلى استعجال القدر ليذهب بهذا الحاضر التعيس، وليعيد مصرنا إلى الماضي القديم.
أخبرني أحد أصدقائي قال: سافرت في الشتاء إلى الصعيد لزيارة الآثار القديمة والاستراحة من عناء العمل، فلاحظ علي سائح ألماني أن العجب يأخذ مني مأخذا كبيرا عند رؤية الآثار المصرية، فسألني إذا كانت هذه هي المرة الأولى لزيارتي إياها؟ فقلت: نعم، فضحك وقهقه، فسألته عما إذا كان زار هذه المعاهد من قبل؟ قال: زرتها سبعا وعشرين مرة، وهذه الثامنة والعشرون، وعلي أن أجيء كل عام في المستقبل أيضا، فضحكت منه أنا نوبتي، وقلت له: فهمت أنك كنت في المرة الأولى مستطلعا مستفيدا فأتممت في المرة الثانية ما نقصك في الأولى من الاستفادة، ثم أعوزك الوقت لإتمام قصدك فجئت الثالثة وفيها مقنع لمستطلع وقضاء لبغية النفس من تكرير النظر للجميل، فما رأيت أعجب من تسويغي زيارة الآثار إلى هذا اليوم إلا إكثارك من رؤية الشيء الواحد، واستزادتك من ذلك على غير جدوى، قال: أؤكد لك أنني كلما زرت هذه الآثار شعرت بالرضى بل باللذة التي كنت أشعر بها في كل مرة سابقة وما رجعت مرة إلا بفوائد جديدة لم أكن لأحصل عليها من قبل.
هذا حديث له أثر ثابت في فهم هذا الاهتمام الذي يعرفه الألمان والفرنسيون والإنجليز والأميركان في زيارة آثار مصر واستنطاقها عن أخبار العالم الأول، ليضيفوا بذلك صفحة أو صفحات إلى أسفار التاريخ القديم ولينتفعوا بذلك في معرفة قوانين النشوء والارتقاء التي صارت عليه العلوم والفنون والصنائع من نحو سبعين قرنا، وليبحثوا في جوانب العالم عن الحلقات المفقودة من سلسلة الظواهر الاجتماعية والحركات البسيكولوجية التي تطورت بها الأمم حتى صارت إلى ما هي عليه الآن، فإن الذي يجهل ماضي العالم حقيق به أن لا يصح حكمه على حاضره ولا على مستقبله، ومن لا يعرف تطورات الإنسان، لا يستطيع أن يضع له قوانين السلوك في الحياة.
كتب إلي أحد أصدقائي نزيل الأقصر اليوم:
أكتب إليك بعد أن زرت معظم الآثار التي خلفها لنا أجدادنا، زيارة داخلني منها الزهو وتضاعف بها حبي لمصر وطني، ولكن الحب لم يصف من شوائب الحزن؛ لماذا لا تدرس في مصر الإيجيتولوجية كما تدرس بإنجلترا.
هذا الكتاب أيضا تدل عبارته على شعور كل مصري متعلم يقف أمام الآثار المصرية لا يعرف منها إلا ما يعرفه العامي، يعرف من الأثر أنه عظيم متقن دال على أبهة الملك الذي يخبر عنه، هذا كل ما نعرف من آثار بلادنا.
لا أطلب أن يكون كل رجل منا يطاول شامپوليون في دقة ملاحظته وقوى استكشافه، أو يباري ماسپيرو في إحاطته بالآثار المصرية، أو يكاثر كمال بك في معلوماته الأثرية، ولكن المطلوب هو محاضرة مستمرة ودرس دائم في الجامعة المصرية أو غيرها من دور العلم يسهل السبيل على أبناء مصر أن يعرفوا ماضيهم لا على الوجه العلمي الدقيق، ولكن على الوجه الذي يعرفه السياح الأوروبيون من آثار وتاريخ أجدادنا الأقدمين.
ليست أمتنا في هذا الحاضر ذات وجود مستقل عن أمتنا الماضية، ولكن الأمة كل واحد غير منقسم وغير قابل للتجزئة، إنها أمة قد خلق جسمها الاجتماعي من يوم أن استقلت بهذا الوطن المحدود، وكانت ذات نظام اجتماعي معروف، فصارت تنتقل في حياتها من الصحة إلى المرض، ومن المرض إلى الصحة؛ حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم، فبعيد على المصريين الذين يريدون ارتقاء بلادهم أن ينجحوا في تحقيق إرادتهم هذه إلا إذا عرفوا حقيقة أمتهم، وحقيقتها هي مجموع ماضيها وحاضرها، فليست معرفة الآثار القديمة فرعونية وعربية - ولو إلماما - قاصرا نفعها على اغتباط النفس برؤية الآثار الجميلة وتحصيل شعور العزة بذكرى ماضي مصر المجيد، بل هناك نفع أعم أثرا وهو الوصول من معرفة الماضي إلى معالجة الحال حتى يتبدل به مستقبل سعيد.
صفحة غير معروفة