دروس الأشياء
أن نعيش حالة وعي كامل، هو أن نأخذ وقتا في تأمل الأشياء، أن ندعها تلامسنا. تلك الأشياء التي نصادفها كل يوم وننسى وجودها لكثرة ما مررنا بها، فلا نعد نراها. علينا أن نتركها تدخل نفوسنا، وأن تسبر دواخلنا. علينا أن نكسر الحدود التي تفصلها عنا، وكأننا نتوحد معها فندعها تخطفنا وتذهلنا، دون هدف ما.
علينا أن نجلس في إحدى زوايا المنزل تاركين أنفسنا لحضور الأشياء الصامت. يجب أن ندرك إلى أي مدى هي مصدر للهدوء، وللبطء وللاستمرارية. علينا أن نقترب منها ونتشربها، وأن نسمعها وهي تهمس لنا بألا نستسلم للحركة («افعل! افعل»)، ولا للسرعة («أسرع! أسرع») اللذين هما بلاءا العصر الحديث. يقول الشاعر بول-جان توليه: «انتبهوا إلى رقة الأشياء ...» نعم؛ لأن هذه الرقة تحملنا بعيدا. لكننا نستطيع أن نقوم بأكثر من «الانتباه» إليها فقط. إننا نستطيع «الحرص» عليها أيضا. علينا أن نحب رقة الأشياء، فطريق اللاحركة هذا سيحملنا في سفر مذهل نحو السكون.
روابط سرية
هذه الأغراض المألوفة ليست بالأغراض العادية، بل إنها رائعة. الماء، الكوب، ركوة القهوة، الطاولة، الحائط، ثمرة الثوم. إنه لأمر رائع أن نشرب، أن نأكل، أن نصنع الأشياء، أن ننتمي إلى نوع ذكي، وفضولي وكادح. حقا إنه لشيء رائع أن نفتح عيوننا على كل هذا الغنى الذي نعيش فيه والذي لا يقدر بقيمة ولا تسبر أغواره.
بالتأكيد لا بد من جهد ما؛ جهد بسيط لا بد من بذله. يجب أن يكون هناك قليل من الحضور ومن التأمل كي نتمكن من رؤية ما هو غير مرئي، وكل ما لم نعد نراه. يجب أن ندرك أننا لسنا وحيدين أبدا لأنه عبر آلاف من الروابط نعرف أن أناسا آخرين قد صنعوا هذه الركوة، هذه الطاولة، وبحثوا عن منابع المياه وبنوا القنوات كي نرتوي، وفهموا كيف يمكن صنع الزجاج من الرمل، وقاموا بزراعة وقطف ثمار الثوم. ونعرف أنه منذ عدة قرون قام رجل اسمه شاردان برسم هذه المعجزة لأجلنا، وها نحن ننظر إلى هذه اللوحة كما رآها كثيرون قبلنا وسيراها آخرون بعدنا. ونعرف أن أناسا مثلنا عاشوا تجربة شرب الماء بكل بساطة، وعرفوا رائحة وطعم الثوم وقاموا بلمس سطح الطاولة بأصابعهم.
هكذا فتح البسيط والعادي الطريق نحو إنسانيتنا؛ لأننا قبلنا به، استقبلناه، أنصتنا له، نظرنا إليه، شعرنا به، وأحببناه، دون أن نستبدله أو أن نجمله ولا أن نغير فيه. لقد قمنا بتأمله كما هو.
هكذا فتح البسيط والعادي الطريق نحو إنسانيتنا؛ لأننا قبلنا به، استقبلناه، أنصتنا له، نظرنا إليه، شعرنا به، وأحببناه، دون أن نستبدله أو أن نجمله ولا أن نغير فيه. لقد قمنا بتأمله كما هو وشعرنا بإنسانيتنا وسعدنا بها. إننا سعداء بجلوسنا هنا في زاوية المطبخ وهذه الأشياء العادية أمامنا؛ سعداء بهذا الاتصال الهادئ مع الطبيعة، مع إنسانيتنا، مع تاريخنا. كل غرض تافه يصبح صندوق كنز ثمين حين ننظر إليه كما أتاح لنا شاردان. فهذا الغرض أهداه لنا شخص، وهذا الغرض اشتريناه عندما كنا في ذلك المكان وذلك الوقت، وذاك أتم صناعته أناس يعيشون في قارة بعيدة ذات حضارة قديمة جدا، وهذا الغرض جاء من ...
إن هذه الأشياء تذكرنا بما هو إنساني فينا وحولنا؛ إنها كدين من الفرح وامتنان يتسع حتى اللانهائي. فكيف بعد كل هذا نستطيع أن نكره الآخرين أو نمتلئ بالكبرياء؟
التوجه نحو كل ما هو أساسي
صفحة غير معروفة