لم أستطع أن أودّعك، ولم أقوَ على رؤيتك وأنت في الباخرة ماخرة بك عباب اليمّ، تنأى بك عني حتى تصير نقطة صغيرة على شاطئ الأفق، ثم تنحدر إليه وتختفي وراءه، وتختفي أنت معها، وتصبح (١) في نظري عدمًا لأني لا أحس لها وجودًا.
والوداعُ -يا أخي- جماع آلام الحياة وأساسها ومصدرها، وأشد ألوان الوداع وآلمها وأمرّها وداعٌ في البحر، ذاك الذي لا يطيقه ذو قلب.
ودّعتك وداعًا عاديًا، ولبثت في مدرستي ألقي دروسي وأنا هادئ الجوارح ساكن الطائر، ولكن في القلب مني زلزلة وفي الأعصاب نارًا. حتى إذا عاد أخوك ناجي (الذي صحبك إلى الباخرة) (٢) فخبّرني أنك سرت «على اسم الله» أحسستُ كأن قلبي قد هبط من هذا الزلزال كبناء هوى، وأن هذه النار قد تركت أعصابي رمادًا منطفئًا، فسقطت على كرسيّ.
_________
(١) تصبح هي (الباخرة) لا هو.
(٢) في حاشية وضعها جدي في هذا الموضع يوم صدر الكتاب أول مرة عرّفه قائلًا: "وهو القاضي الشرعي الآن"، ثم عدّل الحاشية في طبعة لاحقة فقال: "القاضي الشرعي، وهو الآن المستشار القانوني لوزارة الحج والأوقاف في السعودية". قلت: اشتغل ناجي الطنطاوي زمانًا قاضيًا شرعيًا في دوما والنَّبْك، ثم انتقل إلى السعودية فعمل فيها مستشارًا في وزارة الحج والأوقاف سنين طويلة، وأخيرًا عاد إلى دمشق فتوفي فيها (في بيته في دوما) قبل وفاة جدي بسنة واحدة، رحمهما الله (مجاهد).
1 / 52