وَمَا إِنْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَدِيثَهُ مَعَهُمْ وَفَرَغَ مِنْ نَجْوَاهُمْ، وَهَمَّ أَنْ يَنْقَلِبَ (١) إِلَى أَهْلِهِ حَتَّى أَمْسَكَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْضًا مِنْ بَصَرِهِ، وَأَحَسَّ كَأَنَّ شَيْئًا يَخْفِقُ (٢) بِرَأْسِهِ ... ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ (٣)
سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ لَا تَزَالُ تُتْلَى مُنْذُ نَزَلَتْ إِلَى الْيَوْمِ، وَسَتَظَلُّ تُتْلَى حَتَّى يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
***
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا فَتِئَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يُكْرِمُ مَنْزِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِذَا نَزَلَ، وَيُوَسِّعُ مَجْلِسَهُ إِذَا أَقْبَلَ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ.
وَلَا غَرْوَ (٤)، أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي عُوتِبَ فِيهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ أَشَدَّ عِتَابٍ وَأَحَنَّهُ؟!
***
وَلَمَّا كَلَّتْ (٥) قُرَيْشٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَاشْتَدَّ أَذَاهَا لَهُمْ أَذِنَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ أَسْرَعَ الْقَوْمِ مُفَارَقَةً لِوَطَنِهِ، وَفِرَارًا بِدِينِهِ ...
(١) ينقلب إلى أهله: يعود إلى أهله.
(٢) يخفق برأسه: يضرب رأسه.
(٣) سورة عبس: من الآية ١ - ١٦.
(٤) لا غرو: لا عجب.
(٥) كَلَّتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: اشتدت عليهم وألحّت في أذاهم.
153