عدت لسيارتي الحبيبة، أدرت صوت فيروز مرة أخرى وانطلقت، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بفترة كافية لتناثر اللجان بالقاهرة، ومررت بلجنة مبتسما فطلب مني شخص «ما» الرخص، فقمت بإبرازها ليأخذها بعصبية، ينظر بها كمن يتعلم القراءة، سألته: «خير فيه مشكلة؟» فرد بعنجهية: «اركن وانزل من العربية.» لم تعجبني المعاملة فأجبت مبتسما: «لا مش هاقدر انزل؛ أصلي قالع البنطلون.» نظر لي بغضب شديد قائلا: «على فين إن شاء الله يا باشمهندس ؟» أجبت: «على حزب الريح، هو يفرق مع حضرتك ايه أنا رايح فين؟» فرد متظاهرا بالبرود: «لما اسألك تجاوب طوالي، مش ناقص غير تقول لي انت ماتعرفش بتكلم مين؟» فقلت: «لا مش لازم أقول، بكرة إن شاء الله زي دلوقتي كده هاتعرف أنا مين، ويا ريت الرخص عشان مش ناوي اكمل السهرة هنا.» ربما حدة لهجتي وترته بعض الشيء لأنني وجدت الرخصتين في يدي الممدودة، شكرته ومضيت مرة أخرى في طريقي.
خففت من سرعتي مع اقترابي من الكوربة حيث أسكن، لم يكن سكني الأصلي؛ فبعد وفاة والدي تركت بيت العائلة لأختي الصغرى لعدم حاجتي إليه، أو لاقتناعي بأنها أولى به مني؛ فهي متزوجة ولديها محمد ومريم. أعتقد أني تركته لها بسبب مريم؛ فلم أتعلق بطفلة مثلما تعلقت بتلك الطفلة، لم يكن بيت العائلة بعيدا؛ فكل أحداث حياتي كانت تدور حول الكوربة. ابتسمت حين تذكرت السمسار الذي مكنني من شقتي الحالية؛ فقد طلبت منه في البداية غرفة بأي سطح من أسطح «بواكي» الكوربة، وحين طلب بطاقتي ووجدني مهندسا ارتاب وظن أنني هارب من حكم قضائي، وحاول أن يزيحني عن فكرة غرفة السطح لثلاثة أشهر تقريبا، وأعتقد أنه نجح؛ فقد شعرت أنه من العلاقات التي يجب قطعها.
دخلت شارع البوستة حيث أسكن فوق مكتب بريد مصر الجديدة، تعجبني التجديدات التي حدثت لمكاتب البريد، وحتى العاملين بالبريد أشعر أنهم تجددوا أيضا؛ فلم تكن تلك الابتسامة الودودة موجودة قبل اللونين الأخضر والأصفر اللذين أصبحا سمة مكاتب البريد الآن. لم أرهق نفسي بالبحث عن مكان لترك سيارتي، لكني مسحت الشارع الضيق بعيني سريعا؛ فربما أضطر لمليون قسم في الصباح للأستاذ منير مدير المكتب. توقفت بجوار مدخل المكتب ونزلت أزيح الأقماع المخططة بالأبيض والأحمر، وحرصت على وضعها أمام باب المكتب، وتركت سيارتي مكانهم وصعدت السلم بتكاسل حتى وصلت لشقتي.
فتحت الباب على صالتي الصغيرة، وشعرت بالراحة حين طالعت أريكة أمي التي احتفظت بها، لم تطل ابتسامتي ودلفت لحجرة نومي، وهي الحجرة الوحيدة بالبيت، ونقلت فيها حجرتي كاملة من بيت أمي كي لا أشعر بأي غربة، حين وصلت لسريري كنت قد رسمت مسارا لحركتي من حذائي المخلوع والجاكت، وتهاويت على السرير.
زارني رجل المباحث باللجنة في نومي عدة مرات بابتسامته الخبيثة ومعطفه الصوفي الأسود بلا داع، لم أدرك أن لعب دور الكهنة وأنصاف الآلهة هو جزء من تركيبة المؤسسة، لم أكن أعرف شيئا عن المؤسسة. •••
دقات متوالية وصوت «عم رمضان» يدوي بلكنته الصعيدية الجميلة: «يا باش امهندز، يا باش امهندز ...»
قمت كالرجل الآلي؛ فقد تعودت على «فزعة» الثامنة صباحا منذ انتقلت لهذا البيت، خطفت مفاتيح السيارة بدم بارد وعين شبه مغلقة. - صباح الفل يا عم رمضان. - يا باش امهندز، الأستاذ منير أرمانيوس بيجول إني ماعشوفش شغلي وعايجيب بواب تاني، يرضيك اكده؟ - صباح الفل يا عم رمضان، لا هو هايجيب بواب ولا انت هاتمشي، اديله المفاتيح وقله كلمتين وأنا هابصله من البلكونة، انزل يا راجل يا عجوز دا انت تاكل دماغ بلد، خليه يقفل العربية كويس.
لم أر ابتسامة «عم رمضان» الشقية والبريق الذي يطل من عينيه لإطرائي، لكني أعرف جيدا حين يتحول هذا الوجه العجوز العبوس الدائم الشكوى لوجه طفل صبوح تفوق في مدرسته ويبتسم بخجل لإطراء أهل البلد عليه، لم أره مرتديا سوى الجلباب الأبيض وتعتلي رأسه عمامة ضخمة، وسمار لونه من سمار أهل أسوان أو النوبة، ولكنته ما بين سوهاج وأسيوط، وقدرته التآمرية تميل لما بين بني سويف والفيوم، وقدراته الإجرامية لا حدود لها، كلما أسأله: «إنت منين يا عم رمضان؟» يرد: «من بلاد الله يا باش امنهدز عاتناسبني ولا إيه؟!» وتتكرر تلك الجملة الحوارية كلما ناديته ليشرب معي الشاي في تلك الشرفة الواسعة، فيعد الشاي ويفرش سجادتي المصنوعة من صوف الخراف (كليم) ويجلس متكئا على إحدى رجليه وساندا كوعه على ركبة الأخرى، لنبدأ بتلك الجملة وننتهي بها، ولم أكن أعرف وقتها أيضا أن «عم رمضان» لم يكن من الصعيد أصلا. - أنا آسف يا أستاذ منير، والله ما كان في مكان اركن، قلتها صائحا ورافعا يدي معتذرا. - يا باشمهندس مايصحش؛ حضرتك عارف عربية الطرود بتيجي بدري، واحنا مش عايزين مشاكل مع حد. - معلش يا أستاذ منير، لو مش هاندلع عليك هاندلع على مين بس! جملتي الختامية المعتادة لأستاذ منير. - اتدلع يا سيدي اتدلع.
أغلقت باب الشرفة وتسللت للسرير مرة أخرى ورميت نفسي كالأطفال، وقدماي في الهواء، رافعا ذراعي بجوار رأسي، وأكملت نومي مرددا: أنا مش هنام؛ ربع ساعة واقوم اكلم الورشة واشرب شاي وانزل، أنا مش هنام، أنا مش هنام ... وسقطت في نوم عميق.
الحلم الأول
صفحة غير معروفة