بدأت أشعر بالدوار، فتلفت حولي لأرى أنني أقف في مركز دائرة من جنود الحرس الجمهوري، تكبرها دائرة أخرى من قوات مكافحة الشغب، وبينهما يقف الرائد «عمر»، وبجواره «عصام» و«شعراني» و«حسام فوزي» و«عماد»، ثم دائرة أكبر من الكومبارس بملابس الجيش البريطاني، فدائرة أكبر من قوات مكافحة الشغب مرة أخرى، بينهما النقيب الذي لا أعرف اسمه، و«حسن» و«أحمد بيومي»، ثم جموع من العامة الذين كانوا يشاهدون التصوير، كانت إحدى اللوحات المرسوم عليها دبابة قد سقطت من تلك التحركات محدثة دويا بدا مريعا في ظل الصمت المطبق على المكان.
التفتنا جميعا بلا استثناء إليها، فإذا «بأبو ميار» يقفز لينقذها، وتسارعت كافة الأحداث، السيد المبجل يقول: «أنا منتظر رد معاليك»، الرائد «عمر» يشير للنقيب، النقيب يشير لجنوده، يهجم الجميع على «أبو ميار» ويوسعوه ضربا مبرحا، وهو يصيح: «الحقني يا ريس، الحقني يا ريس!» وكأنه أطلق الكلمة السحرية.
الرائد «عمر» يقتحم المسافة بيني وبين السيد المبجل، بينما السيد المبجل ينسحب قائلا: «الرسالة وصلت.» يستوقفه الرائد «عمر» قائلا: «الريس (مشيرا إلي) هايديكم ساعتين تسلموا القصر، وممكن تتحركوا بعربيات الرياسة، وعربيتي هاتطلع معاكم، و...» لم أتمالك نفسي فسقطت مغشيا علي وأنا أسمع همهمة تحولت لصراخ: «الريس وقع، الريس وقع.» وشعرت بمن يحملني وفقدت الوعي.
رحيل الملك
كانت السماء صافية جدا، وصبغت الشمس بأشعتها كل شيء بهالة ذهبية، تمتد خيوطها لتستقبل الملك في رحلته الأخيرة، ما زال الكهنة في غرفة التحنيط بالمعبد الكبير يلفون الكتان المعطر والخيش الناعم، يضعون اللمسات الأخيرة بعد أربعين يوما من الانتظار، آلاف «الأوشباتية» تملأ بيت الأبدية حيث سيرقد جسد الملك، هذا سيعد الخبز، وهذا سينقي العسل، وهذا خادم النبيذ، تلك من ستقوم بالعزف، فالملك يرق قلبه كثيرا لعزفها، أما تلك فهي راقصته المفضلة.
الكاهنات ما زلن يلعبن بأوتار قيثاراتهن، وكبيرتهن ترثي ملكها برقصة وداع، تتضرع فيها لآمون أن يحفظ جسد ملكها، وألا تضل الروح طريقها، سترشدها بإيقاع خطواتها إلى حيث يرقد الملك، تسجد ل «أنوبيس» وتعده بأن تهبه نفسها، لو أنار قبر الملك وحماه من «ست»؛ ذلك الإله المظلم القلب الذي قتل «أوزوريس»، وفقأ عين ابنه «حورس»، تقدم ابتهالاتها لتاسوع هليوبوليس المقدسة، ثم تتمدد على الأرض بجسد مشدود، يغطيه الكتان الأبيض الناعم، ليدخل ثمانية من الكهنة يتقدمهم الكاهن الأعظم، يرتدون أقنعة ذهبية للتاسوع المقدس، ويسكبون على الكاهنة الممدة الماء، والعسل، والنبيذ، والدم، والحليب.
تأتي مجموعة أخرى من الكهنة بأقنعة أنوبيس، لتلعق جسدها، والمعازف تصدح أوتارها، والأبخرة المقدسة تملأ القاعة الأخيرة، أمام قدس الأقداس، وبجوار غرفة التحنيط، ويستمر الطقس ليتحول من الابتهال لصرخات الاستغاثة، وينتهي بقربان للإله «ست»؛ فتاة عذراء، لا تكاد تبلغ التسعة أعوام، يتم نحرها على مذبح صغير، ويتقدم الجميع ووجوههم مغطاة بالأقنعة، ليتذوقوا دماءها، طقس غريب، أثار هلعي، مما أثار بعض الشكوك، فلم أتحرك نحو المذبح مع الباقين، وتوجه بعض الأنظار من خلف الأقنعة نحوي، وبرغم كوني محتميا بقناع ذهبي أيضا، إلا أنني شعرت بالنظرات تنهشني، وفكرت في الهرب من القاعة، بالفعل بدأت في التحرك ببطء شديد للخلف، إلا أن دقة قوية من صولجان الكاهن الأعظم بالأرض قد سمرتني بمكاني.
اقترب مني قليلا وقرع بصولجانه الأرض مرة أخرى حتى أتبعه، فتحركت خلفه في الجهة المقابلة لغرفة التحنيط بشكل عمودي على المحور الرئيسي للمعبد، وما إن قطعنا بهوا صغيرا للأعمدة حتى دلفنا يسارا، وعبرنا أحد الأبواب السرية التي فتحها بعدة قرعات على الأرض بصولجانه، فانزلق الباب يمينا مفسحا لأحدور صغير تظهر في نهايته المشاعل، وسمعت صرير الباب وهو يغلق من خلفي، وصلنا لبهو صغير، تتوسطه مصطبة مرتفعة تشبه مصطبة التحنيط، وأشار لي أن أجلس في مقابلة المحراب الذي يقابل المحور الطولي للمصطبة، جلست على مصطبة حيث أشار، وأعطاني ظهره متوجها صوب المحراب.
ألقى ببعض عيدان الصندل على مبخرة ضخمة أسفل المحراب، وبدأ في تلاوة صلوات يبتهل فيها للعفو عن المخطئ، وبأنه سيعود لطاعة «آمون»، فما زال الصراع الأبدي بداخل المخطئ بين «الكا» و«البا» - أي القرين والروح الحرة بين العوالم - وعلت نبرته قليلا وهو يسأل «آمون» أن ينير ل «البا» طريق العودة، ثم التفت ليواجهني وأشار لي أن أرفع قناعي فرفعته دون تردد، أخبرني بأن الملك سيرحل اليوم ويجب أن أستعد للتتويج، أظهرت تعجبي؛ فوريث الملك وزوج ابنته هو من يجب أن يتوج على عرش البلاد، لكن الكاهن الأعظم كان له رأي مختلف، فابن الملك ووريثه يريد أن ينقل العاصمة من طيبة لمنف ويرحل معها الذهب، والجيش، وتهجر معابد «آمون» وتحل اللعنة بالبلاد كما حلت كلما ابتعد العرش عن طيبة.
لم أفهم لماذا اختارني أنا؛ فأنا لست أكثر من مهندس صغير بالبلاط، ولم أصمم سوى معبد صغير للملكة الأم، وضعت فيه كل ما تعلمته من فنون العمارة، والفلك، لكن لا أدعي بأني الأفضل؛ فهناك من هم أبرع مني بكثير، كما أنني لم أكن من المخلصين ل «آمون»، أو غيره من الآلهة، فكنت كثيرا ما أخالف المتون بيني وبين نفسي، ولم أشارك في أي من الطقوس الجنزية، أو صلوات تقديم القرابين كالتي كدت أهرب منها اليوم؛ بالطبع لم أكن الشخص المناسب لما يريده كبير الكهنة، ولا أعرف كيف سيتم الأمر في اعتقاده، لم يتركني كثيرا لصمتي بل أشار في الجهة المقابلة للمدخل، بأنني سأقيم هنا حتى تحل بي بركة «آمون» أو لعنته، وستكفلني بالرعاية كبيرة الكهنة وخادمة آمون، وأنني غير مسموح لي بالمغادرة قبل حلول «خنسو» - القمر - مرة أخرى؛ أي بعد ثمانية وعشرين يوما من الآن، أطلق كل أوامره كما لو كانت لعنات يلقيها إلي ثم انصرف.
صفحة غير معروفة