قالت: تزوجتها بغير حب؟
قال: كان أبوها يطاردني كالشيطان، وقلت آمن شره وأمتلك قرة عينيه، فتصبح في يدي وطوع بناني. كنت في حاجة إلى امتلاكها، وإذا كانت هناك حاجة فليس هناك حب.
وفي الليلة الثانية رآها بين أحضان رجل آخر، وارتعد حين رأى وجهه، كان هو رئيس الأمن ذاته.
قال: أتخونيني مع رجل آخر؟
قالت: أنا لست امرأة واحدة. أنا امرأتان اثنتان. ومن كان معك الأمس ليست أنا، وإنما المرأة الأخرى. ولا زلت أحبك إلى الأبد؛ فالحب شيء والزواج شيء آخر. قال: أهو زوجك؟ قالت: كان يهدد أبي بالسجن، وقلت آمن شره وأتزوجه، فيصبح في يدي وطوع بناني. كنت في حاجة إلى امتلاكه، وإذا كان هناك امتلاك فليس هناك حب.
وتعانقا في الليل الهادئ بعيدا عن العيون، وكلاهما يقسم بالله والوطن والإمام أنه يحب الآخر إلى الأبد. وفي قمة النشوة قال لها: يمكن للرجل أن يجمع في الشريعة بين أربع زوجات في وقت واحد، أما في الحب فهي امرأة واحدة. وسألته: أنت في حزب الله أم في حزب الشيطان؟ قال: أنا في الحزبين. قالت: ولماذا تدخل حزب الله وحزب الشيطان معا؟ قال: أومن بوجود الله وأومن بوجود الشيطان، وقلت آمن شرهما وأدخل حزبيهما.
قالت: أنت تعيش في خوف إلى الأبد.
الكاتب الكبير
ضعي يدك على رأسي ولا تفارقيني؛ فأنت الوحيدة في العالم التي يمكن أن تراني وأنا أموت دون أن أشعر بالخزي، وإذا جاءت زوجاتي الأربع فأغلقي بيني وبينهن الباب حتى لا يشمتن في موتي، وإذا جاء الرجل ومعه جردل الماء ليغسلني امنعيه من الدخول. منذ مات أبي ورأيت الرجل يقلبه على وجهه ويدس إصبعه في الثقب أسفل الظهر قررت الموت دون غسل. ولماذا يغسلون جسدي الميت ثم يضعونه في التراب؟ لكن هؤلاء الناس يا أمي يعيشون بلا عقل ويموتون بلا عقل. ومنذ منحني الإمام لقب «الكاتب الكبير» أصبح لي بيت جديد وزوجة جديدة، وأثاث من أجود الأنواع لا أشعر بالخزي إذا رآه الإمام لو زارني في يوم من الأيام. ومنذ منحني اللقب والوسام في عيد الأدب والفن وأنا لا أفارقه في الحياة أو في الموت. قال لي: إخلاصك لي إلى الأبد، وجعلني أقف أمامه ممسكا بكتاب الله وأقسمت له بالولاء. قال: أنا الإمام ولا شريك لي في الحكم، وأنت الكاتب الكبير ولك في الجريدة كل يوم صفحة، وصورة داخل برواز، ومقعد إلى جواري لا يفصلني عنك إلا رئيس الأمن، وفي الليل لا يكون فاصل بيننا، نشرب نخب الصداقة القديمة منذ الطفولة، ولم أدرك يا أمي وأنا واقف إلى جواره في الصف الأول، ومن حوله الأضواء والهتاف يدوي، وأقواس النصر مرفوعة أنه يمكن أن يسقط أو يموت كما يموت البشر، وكنت لا أزال أملك عقلي داخل رأسي ، لكنه كان معطلا، لا أدري كيف، ونسيت أن أبي مات وآخرين ماتوا أمامي، وصفحات الجرائد تمتلئ كل يوم بأسماء الموتى، وفكرة الموت لا تبارح ذهني، ومع ذلك لم أتصور أبدا أنني سأموت. وكنت أقف إلى جواره، وأسمع دوي الرصاص، وأراه يسقط إلى جواري وأنا إلى جواره أسقط، ومع كل ذلك ظل عقلي عاجزا عن الإدراك، مؤمنا أنه باق إلى الأبد، وأنا أيضا باق، لا أتصور نفسي ميتا في يوم من الأيام، وإذا تصورت نفسي ميتا فإن الصورة تتلاشى على الفور. حين أسمعهم ينادونني وأرى اسمي محفورا كل يوم بالخط العريض، فأتصور نفسي خالدا إلى الأبد، وأحاول أن أرى نفسي ميتا دون جدوى. وإذا رأيت نفسي ميتا فأنا لا أستطيع أن أراه هو ميتا، وصورته تطل علي من كل مكان فوق الأرض وفي السماء وفوق الأقواس، وفي الصفحة الأولى كل صباح وكل مساء، واسمه على كل لسان، وصورته في الآذان، وكلمته تحدد الصواب والخطأ والفضيلة والرذيلة والشرف والعيب، وصوته في أذني وهو واقف على المنصة يخطب وصواريخ العيد تطرقع، ينطق الكلمات بطيئة ممطوطة، وبعد كل كلمة يتهته والناس تهتف، وأنا واقف أسمع الهتاف والتهتهة وعقلي أيضا واقف، وذهني غائب في الماضي حين كان يجلس إلى جواري في المدرسة، وكلما سأله المدرس سؤالا فتح فمه عن آخره وبدأ يتهته، وتلاميذ الفصل يضحكون، وفي الفناء يسيرون خلفه يشدون يده من فوق الثقب في السروال، وفي الامتحان يجلس إلى جواري، ومن تحت المقعد يهمس في أذني: فاهم حاجة يا وله؟ ولا أدري يا أمي كيف دارت الأيام وأصبح هو الإمام، وأنا كاتب صغير مجهول، لكن أواخر التلاميذ كانوا يدخلون الجيش والبوليس، ومنهم يتخرج الزعماء والرؤساء، ولم يكن للواحد منهم ما يزهو به عند التخرج إلا البدلة الرسمية ونجمة فوق الكتف، وكنت أنا قد دخلت كلية الحقوق وأبي يناديني بالوزير، وأهمس في أذنك أنني لا أحب القانون ولا العدالة ولا أحب أبي، وتشهقين في وجهي بذلك الصوت الغريب، يذكرني بأول شهقة لك وأنا واقف عار أمام المرآة. وفي المرآة ذاتها رأيت أبي عاريا بين ذراعي امرأة ليست أنت، ولمحني أبي وأنا واقف وراء الستار، فنهض وشدني من أذني وقذفني في سريري، وهو يصيح: أتمشي وأنت نائم؟ وفي الصباح حين جلسنا إلى مائدة الفطور، وقدمت لي كوب الحليب فلم أشربه، ضربني وهو يقول: اشرب اللبن. ولم أشرب، فأمسك فمي وفتحه بالقوة وسكب اللبن في حلقي، وما إن جلس يأكل حتى تقيأت اللبن في صحنه، وسألتني: ماذا حدث؟ وكنت أحب حليب الصبح، وسمعته يقول: إنه مريض يمشي وهو نائم. وأرقدني في السرير، وسكب الدواء في فمي بالقوة له مرارة السم، وقلت: أبي يريد موتي حتى لا أقول ما رأيت. وقلت: ماذا رأيت؟ ولمحت الموت في عينيه، فتجمد لساني ولم ينطق، وحملت الثقل في قلبي يزداد يوما وراء يوم، وأراك تغسلين ملابسه تدعكين البقعة الصفراء في سرواله دون جدوى، وتظل البقعة تحت عينيك وفي أنفك تشمين رائحة المرأة الأخرى وتغسلين وتطبخين، وحتى يعود آخر الليل تنتظرين، وفي عينيك حين أنظر إليك أدرك أنك تعرفين. ترين الخطأ في الكون وتصمتين. لو أنك نطقت مرة، لو أنك رفضت أن تغسلي سرواله الملوث بعرق امرأة أخرى، لو أنك ذهبت إلى رجل آخر، ربما أصبح الخطأ في الكون أقل، ربما نما لدي منذ الطفولة إحساس بالعدالة، ربما دخل قلبي الإيمان بالله؛ فالله في طفولتي كان هو العدل، وتمنيت أن أراك بين ذراعي رجل آخر غير أبي. لو فعلت ذلك مرة ربما اعتدل ميزان العدالة في الكون، وكنت أسمع مدرس الدين يقرأ كلام الله، ويقول العين بالعين والسن بالسن والخيانة بالخيانة والوفاء بالوفاء، وظلت خيانة أبي محفورة في الكون بلا خيانة منك تمسحها، وتزداد الخطيئة حين أراك في وجهه تبتسمين، وأتلفت حولي باحثا عن وجه العدل دون جدوى، وإلى جواري أراه جالسا في الفصل مطرقا رأسه، واضعا يده على سرواله من الخلف. وإذا سأله المدرس سؤالا تلفت حوله متحيرا وبدأ يتهته. وحين يضحك التلاميذ يقول: لو كانت هناك عدالة في الكون لما خلقني الله أتهته وجميعهم لا يتهتهون. وهمس في آذني بصوت خافت: الله غير موجود لأن العدالة غير موجودة. وهمست في أذني بدوري: لو كان الله موجودا لما كان الوفاء يقابله الخيانة، والخيانة يقابلها الوفاء. وكنت يا أمي تلميذا في التاسعة من عمري وهو زميلي، وربط بيني وبينه الإيمان العميق بعدم وجود الله، وظلت قدرتي على الإيمان بالله مرتبطة بقدرتك على خيانة أبي، ولم يكف أبي عن خيانتك، ولم تكفي عن الوفاء له. وقلت لك مرارا إنه خائن، لكنك يا أمي لم تسمعي. وإذا سمعت تصمتين ولا تردين. ولم أعرف لماذا تقابلين الخيانة بالوفاء، ثم عرفت أنك كنت تخافين، وكل ليلة تبكين، وفي النوم تحلمين أنك قابلت رجلا آخر، لكنك في الصباح تتراجعين. كنت تخافين الناس وتخافين أباك، وأكثر ما كنت تخافين هو الله. وقلت لك يا أمي العين بالعين والحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة، لكنك أبدا لم تسمعي، وإذا سمعت لا تدركين، وإذا أدركت لا تفعلين. يمر اليوم وراء اليوم وتستسلمين. لو أنك قاومت الظلم مرة، لو أنك دافعت عن حقك، ربما عرفت أنا العدالة، وإذا عرفت العدالة عرفت الله، لكنك يا أمي عجزت عن الدفاع عن حقك، ربما عرفت أنا العدالة، وإذا عرفت العدالة عرفت الله، لكنك يا أمي عجزت عن الدفاع عن حقك، وإذا عجزت عن الدفاع عن نفسك، فهل تدافعين عن الآخرين؟ فاقد الشيء لا يعطيه يا أمي. وعجزت عن الدفاع عن حقي. ترين أبي وهو يظلمني فتسكتين، وفي كل صراع بيني وبينه تقفين تتفرجين. وإذا اشتد الصراع تنحازين إليه وعنه تدافعين، هو على صواب دائما، وأنت عن الحق لا تدافعين. لو أنك قلت مرة إنه أخطأ، لو أنك حكمت مرة بالعدل، ربما عرفت أنا العدل، ربما عرفت الله، ربما قابلت الوفاء بالوفاء، لكني أصبحت مثلك يا أمي أقابل الخيانة بالوفاء، وأصبحت مثل أبي أخون من تخلص لي وأخلص لمن تخونني. وهربت من فتاتي الأولى حين أحبتني، وتزوجت أول امرأة رفضتني، وأصبحت كاتبا كبيرا بأمر الإمام، لا يروقني من نساء العالم إلا زوجته، ولا أكتب إلا ما يروق الإمام. قسمة عادلة يا أمي. هو يملك قلوب الجماهير عن طريقي، وأنا أملك قلب زوجته عن طريقه. وكان يدرك وهو جالس بيننا أن قلبها وعقلها معي، ولم يكن يهمه من المرأة القلب أو العقل، ويقول لي المرأة الجسد ولا شيء بعد ذلك يهم، ولم أكن أرى منها إلا العينين الزرقاوين، أراهما بالليل والنهار، وحين تنظر إلي زوجتي الجديدة يستحيل سواد عينيها زرقة بلون البحر، وأحوطها بذراعي فتستحيل سمرة جسدها نعومة بيضاء، وتلتقط زوجتي اسمها وأنا أهمس به لحظة النشوة وتسألني: من «كاتي» دي؟ ويرتج لساني: مين قال الاسم ده؟ وتقول: أنت قلته لحظة الغيبوبة. أهي فتاتك الأولى؟ وأمسك لساني قبل أن أقول إنها فتاتي الأخيرة، ولم تكن فتاتي الأولى اسمها كاتي، ولم أعد أذكر اسمها ولا شكلها، وكل ما أذكره أن وجهها كان نحيلا شاحبا، وبشرتها سمراء فيها بقع بيضاء ولهجتها ريفية، وحين تشمر جلبابها وتنثني لتمسح البلاط يصعد الدم إلى رأسي، ثم يهبط ساخنا أسفل بطني متجمعا أعلى الفخذين في غدة الشيطان. وتغلقين عليها باب المطبخ بالمفتاح، فأسرق المفتاح من جيبك وأنت نائمة. وحين ارتفع بطنها بالحمل السفاح أمسكت العصا الخيزران وعلى قدميها الحافيتين تضربين، واعترفت لك أنه أبي فزال عني الخوف، وكنت أراه وهو يسرق منك المفتاح ولم أقل لك شيئا، وإذا قلت فأنت لا تسمعين، وإذا سمعت فأنت تصمتين، وأصبحت أصمت مثلك وأخاف أن أنهض من النوم فأراه مع المرأة الأخرى، وأحبس البول حتى الصباح، أو أتركه ينساب كالخيط الناعم الدافئ، ويقول أبي إنني مريض أبول في الفراش وأمشي وأنا نائم، وأقول إنني رأيته مع المرأة الأخرى، وأراك ترتعدين ولا تصدقين. وإذا ضربني وقفت معه وعن الحق لا تدافعين. لو أنك وقفت مع الحق مرة ربما فعلت مثلك، لكن أبدا لم تفعلي. وفعل بي أبي ما شاء فأصبحت مثله، وما يفعله أفعله، ومن جيبك أسرق المفتاح. وحين يراني يصمت، وحين أراه أصمت. وفي يوم العيد رأينا صورتها في الصحف منشورة بوجهها الشاحب وعينيها السوداوين، وذراعاها مفتوحتان نحو السماء في ابتهال صامت، وركبتاها مفتوحتان، وفي نقطة الوسط تتلقى الحجر وراء الحجر، يرجمونها فوق علامة الشيطان، وطبول العيد تدق، وصواريخ النصر تفرقع، وفي حلقي مرارة الهزيمة وهي تنظر إلي، وسواد العين يخرق الجريدة كالنار السوداء.
وفي الصف الأول أقف تحت الأضواء لا يفصلني عن العرش إلا رئيس الأمن ومن بعده الغمام، وفي أذني يدوي الهتاف: «الله معك.» وهو يتهته بخطبة العيد، وأنا واقف إلى جواره صامت، وعقلي غائب، والهتاف يختلط في أذني بدوي الرصاص، ووجهه يسقط من فوق جسده الممشوق تحت الشمس، ووجهي يسقط هو الآخر إلى جوار وجهه، وينظر إلي ويسألني وهو يتهته من تحت المقعد، كما كان يفعل ونحن في المدرسة: فاهم حاجة يا وله؟ وكنت أقول له الإجابة عن كل سؤال في الامتحان، لكني هذه المرة لم أعرف الإجابة ولم أرد، وبقيت راقدا إلى جواره، ووجهي أخفيه في الأرض، وظلمة الليل تجيء محملة بثقل الموت، وجدران جسدي كالصخر تحوطني وأنا راقد، وصوت الرصاص في أذني ممدود كالهتاف، وأنادي عليك يا أمي كما كنت أنادي وأنا طفل، وتأتي إلي في الظلمة كالضوء، وينحني جسدك نحوي، وأرى وجهك أمامي، وأكتشف أنني لم أرك منذ عشرين عاما، وأنحني عند عينيك الصغيرتين أمسح عنهما الأرق، وأناديك فلا تردين، ومن نافذة بعيدة تطل على الكون الصامت، أقول كنت هنا وأنا طفل وقلبي كان بحجم الشمس، وكنت أحبك كما أحب حليب الصبح، لكني فتحت عيني في الليل ورأيت أبي عاريا كالشيطان، وعاقبني الله لأنني فتحت عيني، وكان يجب أن أغمضهما وأظل نائما، ولم أعد أحب حليب الصبح ولا ضوء الشمس، وأصبح الإمام رفيقي، وآمنت بوجود الله، وأهتف مع الناس: الله والوطن والإمام.
صفحة غير معروفة