ولا يرى المرء في الظاهر كثيرا مما يذكره بالحرب وهو يتجول في أثينا في هذا العام، عام 399ق.م، فإن أربع سنوات من السفن المحملة بالحبوب والأسواق المترعة بالبضائع قد ملأت وجوه الناس، وإن أربع سنوات من السلام قد وارت خلفها ندوب قتال الشوارع في بيريس، حيث كان الديمقراطيون المنفيون يشقون طريقهم إلى المدينة بالقتال، وسلم قبل ذلك بعامين آخر حصن للثلاثين، وأضحت أثينا ديمقراطية مرة أخرى، وقد عين بها المحلفون بنزاهة وإخلاص، وعاد إليها مجلس السيادة، وأقسم المواطنون جميعا أن يحافظوا على السلام وينسوا الماضي، وكان أفلاطون الآن في الثامنة والعشرين من عمره، يتحرق شوقا إلى أمر يستحق أن يضحي في سبيله بحياته، فبدأ يفكر جديا في الزج بنفسه أخيرا في معمعان السياسة، وبدا له كأن المدينة قد نبذت حكم الرعاع والاستبداد، وأمست مكانا للرجال المهذبين مرة أخرى.
أما في حقيقة الأمر فإن الحرب الأهلية بطبيعة الحال لم تغب عن الذاكرة بهذه السرعة، ولم يكن أن يعود أي شيء حقا إلى ما كان عليه قبل الحرب، برغم أن كل امرئ تقريبا كان يود أن يحاول ذلك، فقد تشتت شمل الأسر، وطالب كثيرون باسترداد أملاكهم، أو بالانتقام لإخوة قتلوا أو أبناء، واستولت المرارة على النفوس، غير أن نصف المدينة قد شاطر الثلاثين في إثمهم، في حين أن النصف الآخر كان قد كابد النفي والحرمان، وإذا لم يستطع النصفان أن يعيشا معا فلن تكون هناك مدينة بعد زمن وجيز.
ولذا فإن الناس إن كانوا بحاجة إلى الشيء الكثير، فقد كانت خشيتهم أشد، وكان أكثر ما يخشون: أي أمر يعكر صفو السلام، وكان الوطنيون المخلصون المحافظون الذين تزعموا المدينة في السنوات الأولى بعد عودة الديمقراطية، متحدين مع أغلبية المواطنين في هذا، وقد عملوا من أجل السلام، وتحدثوا في أدب إلى الإسبرطيين، وتحملوا صابرين ضياع الإمبراطورية الأثينية، ودفعوا من خزينة هزيلة ما كانوا يدينون به لإسبرطة منذ عهد الثورة، وضحوا بمصالحهم الخاصة للاحتفاظ بالسلام في بلادهم ، وأثنت المدينة بأسرها على واحد منهم، هو أنيتس الوطني الغيور؛ لأنه رفض أن يسترد أملاكه التي بيعت خلال غيبته في المنفى.
وطلبت التضحية من الآخرين كذلك، وحكم المجلس الصغير بالإعدام على أول مواطن حنث في اليمين التي أقسمها لينسى أحزان الماضي، ونفذ فيه الحكم فورا، ولم يرض عن ذلك الكثيرون؛ لأن المحاكم والمجلس الكبير هما وحدهما اللذان يملكان حق الحكم بالإعدام، ولم يسمح بتكرار مثل هذا الحادث، ولكنه أظهر اتجاه النفوس، والتمس الشعراء الهزليون، مثل أرستوفان الناقد صديق سقراط، الذي كان يحب أن يناقش السياسة المعاصرة ويسخر من الساسة، التمسوا لمسرحياتهم موضوعات أخرى أشد من ذلك أمانا، ولم يعد النقد شعبيا في أثينا الآن، بل كان أمرا يتنافى مع الوطنية.
وواصل سقراط بطبيعة الحال عمله كالمعتاد، وكان دائما يريد مدينة نظامية، ويعتقد في طاعة القوانين، غير أنه لم يعتقد قط في كم أفواه الناس كي يبقى ظاهر الأمور مستقرا، وخلال سنوات عدة من العمل استطاع أن يرى حقيقة الخير كامنة في أغوار العقول، كما رأى أبوه من قبل رأس الأسد كامنا في الحجر، وقد ألف سقراط أن يشق السطح كي يبرز إلى النور ما يرى، شأنه في ذلك شأن النحات الماهر، وإذا كان الشق يزعج الناس في أول أمره، فقد اعتاد ذلك سقراط، إن الحق شائع بين الجميع، وبمجرد ظهوره تكون له قدرته الذاتية على فرض السلام والوفاق، وإذن فليستأنف بحثه عن الحق.
وربما لم يتنبأ سقراط بأية متاعب جدية، ولو أنه ما كان ليعيرها اهتماما لو تنبأ بها، وربما لم يساور الشك أقريطون ذاته، فلقد استطاع أن يتغلب هو وسقراط في كثير من أوقات العنف والشدة، وأثينا اليوم مدينة مسالمة تحترم القانون.
وهمس الناس ذات يوم بأمر، وتحول الهمس إلى نبأ يتنقل، ثم شاع النبأ في لحظة في جميع أرجاء المدينة؛ ذلك أن سقراط قد دعي للمحكمة لكي يحكم عليه بالموت.
ولو استبعدنا الشائعات؛ ألفينا الحقيقة كما يلي: لقد اتهم سقراط بأنه لا يعتقد في الآلهة التي تؤمن بها المدينة، ولكنه يعتقد في مقدسات أخرى، وأنه يفسد الشباب، ولا يعني هذا شيئا على وجه الدقة، ولكنه يمكن أن يحور فيعني أي شيء تقريبا لو تناوله خطيب ماهر، وكان ملتس هو المتهم الرسمي، وهو شاب لم يعرفه أحد حق المعرفة، برغم أنه قد رفع الدعوى من قبل هذا العام على رجل آخر متهما إياه بالزندقة، ورافقه في المحكمة مساعدان رسميان ذوا أهمية أكبر ذلكما هما ليكون الخطيب، ثم أنيتس السياسي، أنيتس الوطني النزيه، الذي كان مجرد ذكر اسمه بين المدعين سببا في إضعاف الفرصة أمام سقراط.
وكان مفروضا أن تعرض القضية خلال الشهر أمام إحدى المحاكم الكبرى التي تتألف من واحد وخمسمائة عضوا، ولكن لم يعرف أحد على وجه التحديد من هم الأعضاء حتى يحل يوم المحاكمة، وبمجرد بلوغ القضية ساحة المحكمة لا بد أن يقضي فيها في يوم واحد، والأغلبية - حتى لو كانت بفرد واحد - تكفي لإدانة سقراط والحكم عليه بالنفي أو بالموت أيا كانت العقوبة التي تحددها المحكمة، وإن كان ملتس لا بد أن يطلب عقوبة الموت، وكان أمام سقراط يوم واحد، وأقل من يوم بكثير، ثم ساعات قلائل بحساب الساعة المائية في المحكمة، لكي يبرهن لما لا يقل عن مائتي وخمسين من زملائه المواطنين على صحة حياته كلها.
وكانت القضية التي تعرض أمام المحكمة دائما مجالا طيبا للغو واللغط في أثينا، ولو استمعت إلى الأحاديث في السوق لوجدت اسم سقراط في كل مكان وإن لم يحضر بشخصه في ذلك الصباح.
صفحة غير معروفة