أنكسجوراس الملحد
ولما تقشع الخطر الإسبرطي؛ سر المدينة أن تستقر وأن تعود إلى شئونها السلمية، وامتلأ الملعب مرة أخرى بالرياضيين، وجلس الشيوخ يتبادلون الحديث في أبهاء الأعمدة وهم ينتظرون دورهم لأداء واجبهم كمحلفين، وكانت تنبعث رائحة الخبز الطازج المألوفة يشمها من يمر بمحلات الخبازين، وكذلك كنت تسمع طرق السندان المعروف يصدر عن حي الحدادين، وطقطقة المطارق في الحجارة في الشارع الذي كان يقطنه سقراط، وإن أنت دخلت بيت سفرونسكس، فالراجح أنك لن تجد سقراط وأباه فيه، ونستطيع أن نتصور أنهما كالكثيرين من أصدقائهما يقومان بأداء عهد عليهما للشعب، وربما كانا يعملان في عمود في معبد أثينا الجديد الذي كان يشيد في الجهة الجنوبية من الأكروبول.
ووجد سقراط أن إقامة عمود للمعبد الجديد كان أشق عمل أداه حتى ذلك اليوم، فالكتل الرخامية - التي تم من قبل تشكيلها في المحاجر على صورة خشنة، كانت تسحب فوق الطريق الوعر من جبل بنتليكوس في عربات ضخمة تجرها الثيران، ثم تفرغها عصابات من العمال غير المدربين يبذلون الجهد وينضحون العرق، ثم يتولى العمل سفرونسكس وسقراط وأعوانهما من الرقيق الماهرين، ويتعاون على العمل الأحرار والعبيد، يقطعون كل حجر على شكل قطاع عمود يشبه الطبلة، يكبر قليلا ما سوف يصير إليه بعد الفراغ منه، وبه أربعة مقابض بارزة تركت دون تهذيب لكي تمسك بها الحبال عند رفعه، وكلما أعدوا طبلة رفعوها بالبكر ووضعوها فوق سالفتها، وركزت في دقة بحيث يلتئم وتد خشبي بالطبلة السفلى في جيب بالطبلة العليا، وكان يلزم لجذع العمود اثنتا عشرة طبلة، ولا بد من إعداد أعلى كل عمود وأسفله في عناية تامة، حتى إذا ما تم العمل ارتفع العمود كأنه حجر واحد، لا ترى فيه سوى خط رفيع عند كل التحام.
وحتى بهذا لم ينته كل شيء، فإن العمود لا ينبغي أن يعتدل إلى أعلى وإلى أسفل على خيط البناء، بل لا بد أن ينحني إلى الداخل قليلا، كما ينبغي أن تتقوس واجهته الجانبية ويدق طرفها، أقل ما يمكن من تقوس، بحيث لا تمكن رؤيته، مثله مثل التقوس العلوي الذي لا يكاد يرى والذي تم بناؤه في أرض المعبد كلها، ولا يعرف الفارق حقا بعد الانتهاء من البناء سوى مهندسي المباني والعمال، أما من عداهم من الناس فإنهم يكونون أكثر اقتناعا على أية صورة من الصور، ويحسون أن السقف والأرض كلاهما لا يتقوس - كما يبدوان لو أن خطوطهما قد صنعت في استقامة تامة - وأن الأعمدة متينة تحمل العبء في يسر وخفة.
وبعدما يقام العمود ، يتسلق سقراط الهيكل الخشبي لكي يبتر الغطاء الحجري الخارجي الواقي، ويتم التخطيط الذي بدئ من قبل في الطبلة السفلى، وكان لا بد من تخطيط عشرين قناة دقيقة التقوس على طول الجذع حتى تاج العمود في أعلاه، وبين القنوات حافات حادة كأنها سكاكين من الحجر.
وقضى سقراط هنا عدة ساعات، على منصته الخشبية عاليا فوق المدينة، وكان يستطيع أن يرى في أسفله المسرح الذي تمثل فيه المسرحيات، خاليا في ضوء الشمس، وإلى يمينه الأسوار الطويلة تؤدي إلى الميناء بمياهه الزرقاء المتلألئة، تنتشر فيه الأشرعة اللامعة، ويستطيع كذلك أن يتطلع إلى الجبال، فهناك تل ليسابتس القريب، وبنتليكوس الذي تقع إلى جانبه محاجر الرخام، وهيمتس موطن نحل العسل، وهيمتس هو الجبل الذي كان وميضه القرنفلي الأرجواني يعطي لأثينا في المساء الصفة التي يحبها أهلها أكثر من سواها؛ «أثينا البراقة المتوجة بالبنفسج»، هذا ما قاله شاعر معروف، ولكنه كان صدقا كما كان شعرا فيما ظن سقراط، وحتى قبل مغيب الشمس في ضوء الأصيل الذهبي، كان من اليسير أن تشاهد المدينة وكأنها المركز البراق لتاج بنفسجي من التلال.
بيد أن منظر الطبيعة بغير سكان كان كأنه الصحراء في عين سقراط، فكان يسره أن يعمل مع أصدقائه في أرض المعبد، وكان الأكروبول في تلك الأيام يزخر بالحياة، وعصابات العمال تنتشر في كل مكان، فها هنا الرخام الجديد يصل من المحاجر، وهناك الطبلة الكبرى ومختلف المواد من المعبد القديم الذي لم يتم بناؤه والذي أحرقه الفرس، كلها تسوى حتى تصبح ملساء بيضاء كي يمكن استخدامها في جذع عمود رقيق في الدهليز الجديد، وأقيمت الهياكل الخشبية، وأخذ أحد المفتشين يراجع تخطيط قاعدة الأعمدة، وكثيرا ما مر الرجل الأول في أثينا - القائد بركليز بنفسه - يصحبه أحد مهندسي البناء، أو مع فدياس كبير النحاتين في هذا العمل.
وأحب بركليز أن يحضر إلى الأكروبول، فلقد كانت المعابد الجديدة مفخرته الخاصة، كافح من أجلها في الجمعية، وهو الآن يكاد يمر كل يوم ليشهد مسير العمل، وكان برنامج البناء - بطبيعة الحال - مطلوبا لرعاية المتعطلين، ولم يستطع أحد أن ينسى السنوات الشاقة، التي أعقبت إبرام الصلح مع الفرس مباشرة، حينما عاد الأسطول إلى الوطن ليستقر فيه، وكان سقراط في ذلك الحين قد بلغ سن الرشد حديثا، فذكر ذلك جيدا، وكان هناك قوم كثيرون في ذلك الحين وعمل قليل، أما الآن فقد أوجدت المباني الكبيرة عملا كثيرا لكل إنسان، رغم أن مدن الاتحاد قد تذمرت من اضطرارها إلى دفع النفقات، وكانت تحب أن تخصص أموالها في الإنفاق على السفن والملاحين ومقاتلة الفرس، ولا تنفق على المباني.
وكان بركليز يحب أن ينفق أموال الاتحاد - وأمواله أيضا إن كانت إليها حاجة - على المباني؛ لأن هذه المباني كان لها عنده معنى مختلف، لم يكن معناها فقط توفير العمل يشغل به مئات الرجال: من نجارين ونقاشين وعمال في الرخام والبرنز وخشب السرو والعاج والذهب، ولم يكن معناها فقط أن تصبح المدينة قانعة مرتاحة يتوافر فيها الطعام للزوجات والأطفال، وإنما كان بركليز يحلم لأثينا حلما بدا إمكان تحقيقه في فترة وجيزة من الزمن، كان يريد لها أن تمسي مكانا يؤدي فيه الناس خير ما عندهم وأجمل ما لديهم، ويعتقد بركليز أن ليس هناك شيء تقريبا يعجز عنه الإنسان، لا يعز على الإنسان جمال أو مهارة، ومن واجب أثينا أن تثبت ذلك للعالم أجمع، وأن تثبته في كل ما تعمل، على أثينا أن تكون مدرسة اليونان: بحياة أهلها النشيطة المتنوعة الألوان، وبحرية حكومتها، التي يحس فيها كل امرئ أنه جزء مما يحدث، وببهجة حفلاتها وحكمة مسرحياتها، والآن بجمال الأكروبول الذي تتوج به المدينة.
ولم يكن معبد أثينا كل ما بها، فقد بدأ برنامج المنشآت بمعبد هفيستس إله النار عند سوق المدينة. وتضمن البرنامج ثاني الأسوار الطويلة التي تصل أثينا بمينائها بيريس، كما تضمن إنشاء مدينة حديثة التخطيط بدلا من بيريس ذاتها، وأقيمت فوق الأكروبول سلسلة بأسرها من المباني، يبلغ كل منها أقصى ما يمكن تحقيقه في ضرب من ضروب الجمال.
صفحة غير معروفة