ولا بد أن تؤدي الغيرة والخوف إلى القلاقل إلى اشتعال الحروب فورا، وإلى القتال الطويل المريع فيما يقبل من الأيام، بيد أن القوة الأثينية في عين سقراط، وهو في العقد الثاني من عمره، كانت مثيرة ولم تكن مخيفة، وكانت إصبع المجلس - وهو اجتماع المدينة الأثيني - الذي ينعقد فوق التل الذي لا يبعد كثيرا عن السوق، تلعب دورها في أمور صقلية ومصر وآسيا الصغرى والبحر الأسود، وتهيأت لسقراط وصحبه الفرصة لكي يشهدوا قوما جذابين من أقاصي البلاد، من فرس شامخي الأنوف متراخين في حركاتهم يعتقدون - كما يقال - في صراحة القول قبل كل شيء، إلى ملاحين من الجزر يعرفون ساحل روسيا الجنوبي كما يعرفون مرافئ بلادهم، وقد قاموا بعشرين رحلة بحرية إلى النيل، إلى فنانين وصناع من جميع أصقاع البحر الأبيض وفدوا إلى أثينا - ولا نذكر الفنانين والصناع الذين أنجبتهم أثينا بنفسها - إلى شعراء وموسيقيين ومخططي المدن ومهندسي المباني ومؤرخين وتجار ومبعوثين دبلوماسيين وأرستقراط مبعدين عن بلادهم، إن سقراط لم يكن بحاجة إلى أن يتطلع بعينيه إلى أبعد من مدينته لكي يرى قوما من أكثر الناس إثارة للاهتمام في العالم.
ولم يكن عجبا في هذه الظروف أن يهوى رجل كسقراط - بما لديه من خيال وتطلع إلى المعرفة - الاستماع إلى الناس والتوجه إليهم بالسؤال، وكان كل فرد في أثينا محدثا، كانوا يتحدثون في السوق صباحا، وفي الملعب بعد الظهر، وفي حفلات العشاء وفي النوادي مساء، كانوا يتحدثون عن الرياضة («من ذا تظن ستكون له الغلبة في المصارعة في الألعاب الأولمبية في هذا الموسم؟») ويتحدثون عن السياسة («قلت في ذلك الحين: إن مشروع بركليز الذي يقضي بدفع الأجور للمحلفين سيكون فيه خراب المدينة!») ويتحدثون عن الحرب والسلم («لماذا لا تبلغنا أي أنباء عن أسطولنا في مصر؟») وكانوا يديرون حكومتهم بالكلام، وهي أول ديمقراطية في العالم، وكان لكل مواطن من الذكور الحق في التعبير عما يدور في نفسه قبل أن يدلي بصوته في المجلس، وربما صاح الأعضاء في وجهه مطالبين إياه بالصمت إذا لم يحسن الحديث.
ومن ثم فقد أصغى سقراط إلى كثير من الأحاديث، أصغى وفكر فيما كان يقال، ووفق بين مختلف الأحاديث في ذهنه، وأدرك أن كثيرا من الكلام كان يتعلق بأشياء لم يعرف عنها المتكلمون في حقيقة الأمر إلا قليلا، واتضح ذلك من الطريقة التي كان المتكلم يناقض بها نفسه دون أن يدرك هذا التناقض، ومن المؤسف أنهم لم يفكروا في أمورهم تفكيرا كاملا.
ولما شب سقراط واشترك في الحديث لحظ الناس أن له طريقة خاصة به، كان يحب أن يوجه الأسئلة، وينتقل من سؤال إلى آخر، حتى يظهر جليا ما بعقل محدثه من اضطراب، وكانت هذه الطريقة تربك المسئول، ولكنها تسر السامعين وتسري عن نفوسهم، وكان كثير من الناس يحسب سؤال سقراط ضربا من ضروب اللعب تداخله الحيلة ويدعو إلى القلق، وربما كان كذلك بادئ الأمر.
ولم تكن الحياة كلها في أثينا كلاما، وكان لسقراط أصدقاء من سنه، هم جيرانه من الصبية، تتفق أوقاتهم في العمل مع أوقاته، ويتعلمون مهنتهم نحاتين أو نجارين، وكانوا يلعبون في الطرقات معا بعد ساعات العمل، أو وقت الظهيرة حينما كان الشيوخ يخلدون إلى الراحة، وكان أصدقاء سقراط يتبارون ويتصارعون ويتقاتلون مع صبية الأحياء الأخرى، شأنهم في ذلك شأن جميع الصبية في أثينا، كانوا يلعبون بعظام الكعوب ويستخدمونها زهرا، وكونوا النوادي والصداقات الوثيقة ثم فضوها، وكان سقراط فردا في جماعة، ولما شبوا فيما بعد وأصبحوا أساتذة في حرفهم، واهتدى إلى حرفته الحقيقية، رحبت به كل مصانع المدينة.
ولم يعد سقراط يلتقي كثيرا بزملائه الذين تعرف إليهم أيام الطلب، من أبناء الطبقة العليا الذين لا يحترفون سوى السياسة والخدمة العامة، ولم يرافقهم إلا في أيام الأعياد، كانوا يصعدون التل معا مقتفين الموكب العظيم ليشهدوا حفل أثينا الجليل، وكانوا يحشرون في الحشد الذي يشهد سباق الزوارق وسباق الشعلة والمباريات الرياضية والاستعراضات العسكرية، كانوا يجلسون على سفح التل - في الشتاء والربيع - يشهدون سويا حفلات التمثيل، مآسي الأبطال والملاهي الصاخبة، وفي كل حفل خمس عشرة مسرحية جديدة، مليئة بالحكم والخيال والفكاهة التي يضعها أحذق المفكرين في أثينا.
ولذا فقد كانت مدينة أثينا بأسرها في أيام الحفلات شخصا واحدا، لا يحول حائل بين سقراط النحات وأقريطون الشاب الرياضي المهذب ، ولكنه في الأيام الأخرى كان لا بد له أن يتوجه إلى الملعب لكي يلاقي هؤلاء الأصدقاء، فقد كانوا ينفقون طيلة النهار وجميع الأيام هناك، يعملون جادين في الألعاب الرياضية والتمرينات الخلوية التي تلقوا في المدرسة مبادئها، وكان كثير من حديثهم يدور حول الخيل، وكانت تقوم بينهم صداقاتهم الخاصة الوثيقة التي تبعد عنهم سقراط.
وبرغم ذلك كان يحب أن يشاهدهم، وما كان أروعهم وهم يتألقون على طول طريق السباق في الشمس، يكسبهم الزيت لونا بنيا لامعا، أو حين يقذفون الأقراص في رشاقة واتزان وسيطرة تدل على الساعات الطوال التي أنفقوها في التدريب، وكانوا كذلك مهرة كما كان ماوس وسفرونسكس، ولم تكن مهارتهم في الأداء بالنسبة لسقراط أكثر من مهارة الصناع، بيد أنه أحبها كما أحب كل ما هو جميل وحي.
الفصل الثالث
الآلهة
صفحة غير معروفة