فما فيهما لي سلوة بل حزازة
يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
ولم نورد القصيدة كلها وإن كانت أبياتها جميعا من هذا الطبق الرفيع، وإنما اقتصرنا على ما فيه تمثيل لما نريد، والذي نريد هو أن «نمو» عاطفة الأبوة أو الأمومة رهن بالصورة الحاصلة في الذهن وبجهد النفس وبالأمل الناشئ. وفي هذه الأبيات المتخيرة صور عدة - صور قبلات يذكر الأب حلاوتها، وشمات لا تزال تتضوع إلى أنفه، وضمات لا يفتأ يحسها، وملاعب للطفل وعين أبيه ترعاه وتلاحظه، وذكريات شتى يهيجها الغلامان اللذان أخطأهما الموت، بل كل شيء يهيج الشاعر إلى التذكر، وللمهد صورة وللحد أخرى، ولما كان للآمال فيه صور شتى ولما صار إليه في التراب صور غيرها، يتخيلها الشاعر ويتساءل عنها مشفقا موجعا فيقول: ... ... ... ...
ألا ليت شعري هل تغيرت عن عهدي
ولصحته صور محببة ولسقامه وذبوله وما أصابه من النزف وذواه على الأيدي، صور تكوي الفؤاد وتلعج القلب، وللمحاته وبشائرها وأفعاله وما كان يأنس منها، وللرجاء فيه والفرح به وانتظار ما سيكون عليه ويصير إليه، لكل ذلك صوره العالقة بالنفس المتشبثة بالضمير، وهكذا إلى غير نهاية. وأين تكون نهاية هذا العالم الحافل بالذكريات المحشودة الزمر؟ وما ظنك بالأم وعالمها أحفل، وزمر ذكرياتها أحشد!
والذين تتحول هذه العاطفة الأبوية في نفوسهم إلى مجرى آخر، أعني الذين يتبنون الآداب أو الفنون أو العلوم أو ما شاكل ذلك، يستغرقهم حب ما انصرفوا إليه وتخلوا له، ويدري الناس مبلغ استغراق ذلك لنفوسهم واستيلائه على هواهم فيعجبون ويعدونه شذوذا ويحصونه عليهم، ولو أنهم فكروا في أنهم اعتاضوا من الأبناء هذا الذي شغفوا به، وأنها هي عاطفة الأبوة في صورة أخرى ومظهر جديد، لما بدا لهم في أمرهم وجه غرابة أو شذوذ، ومن الذي يستغرب من الأب حب بنيه ووقف حياته عليهم وإفراغ جهده في سبيلهم وقصر سعيه على خدماتهم؟ لا أحد! بل هذا هو المعقول، فمم يدهشون ويعجبون حين تلبس هذه العاطفة ثوبا آخر أو تتدفق في مجرى جديد أو تتخذ صورة غير المألوفة؟
كيف كنت عفريتا من الجن
كان ذلك وأنا فتى يافع أسوم كل سرح، وأنهز بكل دلو، ولا أفكر في غير الساعة التي أكون فيها، ولا أبغي إلا أن أستوفي حظي في الحياة، وأن أستوثق من أن كرعتي منها راوية. وفي ليلة من ليالي الصيف الحميدة، ثنيت الخطا إلى البيت - وكان في حي «الصليبة» - بعد أن قضيت وطري من شراب وسماع، فلما بلغته ووقفت على عتبته، ذكرت أن ليس به أحد سوى جدتي التي أوفت على التسعين، وأن المفتاح ليس معي، فقلت لنفسي «أيليق أن أزعج الجدة وهي تقوم مجهدة ولا تسير إلا إلى جانب الحيطان لتضع يدها عليها وتسند نفسها؟ كلا، أولى بي أن أدعها مستريحة وأن ألحق ببقية الأسرة - أمي وأخي - والجو رائق والمشي منعش.»
وأوليت الباب ظهري وانصرفت. ولم يكن الطريق إلى الإمام، في تلك الأيام معبدا، ولا ترام هنا ولا نور، فليس طريق بأحسن أو آثر من طريق، فاخترت أقصر مسلك وهو الذي يمر بمسجد «السيدة نفيسة» ويخترق المقابر المبعثرة وراءه، ويتصل بالطريق العام المطروق عند آخره ومضيت أخبط فيه، وأتخبط أيضا؛ لأن كثرة المقابر وانتثارها وتزاحمها تضل ولا سيما في الظلام، غير أني لم أكترث لذلك ولا فكرت فيه، وفوضت الأمر لرجلي تدبان حيث ألفتا أن تدبا في أوقات شتى من النهار والليل، وانطلقت أفكر فيما كنت فيه، وأردد فيما راقني سماعه وأرجع ما شجاني من الأنغام، وأعيتني «مقطوعة» وأحسست أن المشي لا يعينني على ضبط الصوت فيها وإخراجها كما ينبغي، فوقفت وأسندت ظهري إلى قبر وذهبت أغني، وهي صورة لا تزال ماثلة بذهني إلى هذه الساعة وإن كنت في ليلتي تلك لم ألتفت إليها، ولا جعلت بالي لها، وكيف يعبأ شاب ثمل بالقبور وما انطبقت عليه؟! وعلى أنه متى كان المرء في صدر العمر يفكر في الموت على أنه حقيقة قريبة لا مهرب منها ولا معدى عن مواجهتها؟ إن الإنسان منا ينظر في شبابه إلى الموت - حين يجريه شيء بباله - كما ينظر إلى شيء وراء الجبل، لا يفهمه ولا يدركه ولا يعرف كنهه ولا يتصوره إلا على أنه المجهول البعيد. ويشغله صعود الجبل وما يلقاه على هذا الجانب منه، وما يفتنه وهو يتوغل حتى يدنو من القمة، فتتزاحم في رأسه الخواطر والتكهنات عما وراء هذه الرباوة التي قضى الشطر الجميل من حياته في الصعود إليها، ويحضر إلى ذهنه شيئا فشيئا معنى الموت ومؤداه، ثم يستبد بخاطره ولا يخاطره، ويكون الإصعاد قد هد القوى كثيرا وأنهك الجسم فيتبلد إلى حد كبير من فرط التعب، ويواجه فكرة الموت في شيء من الذهول يذهب برهبة الفناء ويسلبه الفزع.
وقفت إذن أغني على القبر وأرسل الصوت في ظلمة الليل غير حافل بما حولي من القبور المتزاحمة أو عابئ بما تحتي من الرفات الدفين. رفات قوم كانوا مثلي في ميعة العمر وعنفوان الحياة وجهل الشباب يمرحون ويغنون ولا يفكرون فيما يصير إليه كل حي من الفناء الشامل. وما فتئت على هذه الساعة أعجب لذهولي إذ ذاك عن الموت وأنا في وسط لجته الراكدة. إن الشباب رحمة، وكيف كانت الحياة تكون لو أن فكرة الموت كانت تخامر النفس من المهد إلى اللحد؟ كان حريا بها إذن ألا تطاق وكان خليقا بالمرء أن يكف عن كل سعي، وأن ينفض يده من كل جهد يبذله في سبيل أية غاية بالغة ما بلغت من السمو والفتنة، وما خير الحياة أو جدوى المساعي أو عزاء الغايات وهذه الهاوية مفتوحة لابتلاع الإنسان؟ إن الموت هو اليأس، ومن رحمة الله بالخلق أن الحياة أقوى، وأن إحساس المرء بها أعظم، وأن وقعها في نفسه أشفع وأن استيلاءها عليه أتم، والشباب قوة دافقة، والحياة معه تكون جديدة، فلها كل حلاوة الجدة وسحرها، ولكنها في الكهولة تكون شيئا مألوفا وتجارب معهودة معادة، ومن هنا لا يحس الإنسان بالفزع حين يخطر له أنه سيكف عن هذه الحياة التي ظل يذوقها حتى كاد يحتويها، ولولا أن الحياة عادة ككل شيء في الدنيا، وأن المرء يألف أن يعيش وأن يتنفس الهواء لما استثقل أن يموت وأن ينقطع عن الدنيا، فالعادة والخيال الذي ينمو مع العمر، والإحساس بالنفس، هذا هو الذي يجعل الموت صعبا وتجعل لمفارقة الحياة ألما. وعلى خلاف ذلك الأطفال والحيوان.
صفحة غير معروفة