صندوق الدنيا
صندوق الدنيا
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
مقدمة
كنا نفرح «بصندوق الدنيا» ونحن أطفال ... نكون في لعبنا وصخبنا فيلمح أحدنا «الصندوق» مقبلا من بعيد فيلقي ما بيده من «كرة» أو نحوها ويطلقها صيحة مجلجلة ويذهب يعدو متوثبا ونحن في أثره، ونتعلق بثياب الرجل أو مرقعته على الأصح، فما هي بثياب إلا على المجاز، فهذا ممسك بكمه، وذاك بحزامه وآخر يده على الصندوق، وهو سائر وظهره منحن تحت حمله، ولحيته الكثة الغبراء مثنية على صدره، ونحن نتلاغط حوله وتتوثب، حتى يصير بنا إلى الظل، فيضع «الدكة» الخشبية على الأرض فنكون فوقها نتزاحم ونتدافع ونتصايح ونتشاتم قبل أن تستقر على أرجلها، والرجل ساكن الطائر لا يعبأ بنا ولا يولينا نظرة ولا يحفل من بقي منا على «دكته» ومن زحزح عنها فوقع على الأرض فقام يلعن ويسب أو يبكي ويتوجع، أو يمضي إلى الحائط فيلصق به كتفه ويعمل يده في عينه.
ويخلع الرجل الحوامل عن كتفه ويقيمها أمامه ويرفع «الصندوق» ويحطه عليها، فنزحف نحن «بالدكة» إليه وندني وجوهنا من العيون الزجاجية الكبيرة، وننظر وننتظر. فإن صاحبنا لا يعجل، ويطول بنا النظر إلى لا شيء. والانتظار على غير جدوى، فنرتد برءوسنا عن عيون الصندوق، ونرفع إليه وجوهنا الصغيرة، فيبتسم ويبسط كفا كالرغيف ويقول «هاتوا أولا» فتندفع الأيدي إلى الجيوب تبحث عن الملاليم وأنصافها فتفوز بها أو تخطئها، فتبيض وجوه وتسود وجوه وتلمع عيون وتنطفئ عيون، وتفتر شفاه وتمط أخرى أو تتدلى، ويقبل «المعدم» على «الموسر» يستسلفه مليما، ويحدث في عالم الصغار ما يحدث في عالم الكبار، من جود وبخل، ومن مسارعة إلى النجدة أو اغتنامها فرصة للانتقام، ومن مساومة ومشارطة ومطل، ومن تعبير بجحود يد سلفت، ومحاسبة على دين قديم، ويرجع المحرومون كاسفين آسفين، أو ناقمين ثائرين، أو راضين غير عابئين، ويقعد السعداء ويقبلون على «الصندوق» وقد نسوا إخوانهم، فكأنهم ما خلقوا ولا كانوا منذ دقائق قليلة أندادا يتلاعبون ويفرح بعضهم ببعض ويجد في قربه الروح والغبطة والأنس، ويطل الرجل من عين في جانب «الصندوق» ويدير «اليد» فتبدو لعيوننا المشرئبة صور «السفيرة عزيزة» ربة الحسن والجمال، و«عنترة بن شداد» الذي كان:
يهزم الجيش أوحديا ويلوي
بالصناديد أيما إلواء
و«الزير سالم» و«يوسف الحسن».
صفحة غير معروفة