وهكذا. تنتقل من موضوع إلى موضوع بلا فائدة حتى يبح صوتك. والنساء شر لا بد منه، وكثيرا ما تنسيك حلاوته مرارته ولكن المرأة الصماء ... هنا يحسن السكوت.
من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
وقعت مرة على عصبة من اللصوص، وكنت في ذلك الوقت صبيا في الثالثة عشرة من عمري الذي أراه ينوي أن يطول بلا مسوغ، وكنت عائدا من مكان قريب من مسجد عمرو إلى الإمام عن طريق الصحراء الفاصلة بينهما، وكان الليل قد أمسى وانتشر الظلام على الأرض، ولم يكن شارع «كتشنر»
1
قد شق وعبد. فكان الساري لا يجد ما يهتدي به في هذه البيداء المبسطة سوى النجوم إذا كان ممن يستطيعون أن يميزوا بينها.
وكنت أعرف من الكتب أن هناك «دبين» واحد منهما أكبر من زميله، ولكني لم أوفق إلى رؤيتهما في هذا التيه السماوي إلا منذ عهد قريب، وكان شكي يومئذ في وجودهما عظيما، ولكنه شك لم أكن أدعه يند عن صدري إلى لساني ولاسيما إذا كان أحد من المدرسين حاضرا، تلك جرأة كنت قد تعلمت ضبطها وكتمانها بعد أن جرت علي ما لا أزال - كلما تذكرت - أرى يدي ترتفع إلى خدي. وشرح ذلك أنا كنا نطالع كتابا نسيت اسمه، فمرت بنا هذه الجملة المشهورة: «إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه» وأخذ المدرس يضرب الأمثال، فكبر في عيني هذا «المضطر» الذي يبلغ من مخاطرته ألا يركب إلا الصعب «ويتعمد ذلك» ولا يعبأ شيئا بالأهوال التي يقذف بنفسه عليها، وأعجبتني هذه الشجاعة وملأت نفسي إجلالا له، فاشتقت أن أراه وعانيت من إلحاح هذا الشوق أشد البرح، فلم يكد المدرس يفرغ من الشرح - وكنت في شغل عنه بتصور «المضطر» وتمثل «الصعب» الذي يركب - حتى وثبت عن الدرج كالقذيفة وقلت بلا استئذان: «أفندي! أفندي!»
فتغاضى المدرس عن مخالفتي للأصول المرعية وقال لي وعلى فمه ابتسامة الراضي عن نفسه المطمئن إلى بلوغ غايته من الإيضاح والبيان: «نعم يا عبد القادر؟»
فجازيته ابتساما بابتسام ولم أكن أقل منه رضا عن نفسي وفرحا بالانفراد - دون بقية التلاميذ - بهذه الرغبة الملحة، واغتباطا بشجاعة النهوض بلا استئذان للإعراب عنها فقلت: «أين يعيش المضطر؟»
فتجهم وجهه وانزوى ما بين عينيه وطالعتني أمارات الغضب حسبتها دلائل حيرة، فأسفت لتقدمي بهذا السؤال وإحراجي إياه به أمام التلاميذ وقلت لنفسي: إن معلمنا هذا معذور إذا جهل مكان «المضطر» واستعصى عليه الجواب، وأنى له أن يعرف - وهو رجل عادي - ذلك «المضطر» الذي لا يبالي بالصعب ويأبى إلا أن يركبه؟ وانتبهت من هذه المناجاة، التي يظهر أنها طالت أكثر مما ينبغي، على التلاميذ يدفعونني وعلى المدرس يصيح بي. «أقول لك تعال هنا، ألا تسمع؟»
فلم أدع الابتسام وذهبت إليه وأنا أقول لنفسي: «سيعاتبني الآن على تسرعي وعدم انتظاري انتهاء الدرس لأسأله على انفراد، وسيهمس في أذني عتابه فأهمس في أذنه اعتذاري وأنتظر.» «ماذا تقول؟» بصوت عال.
صفحة غير معروفة