بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(مُقَدّمَة)
الْحَمد لله الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ.
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، الْقَائِل فِي كِتَابه: ﴿اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء قَلِيلا مَا تذكرُونَ﴾ .
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمنزل عَلَيْهِ: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم﴾، أَي بمخالفتكم لسنته الَّتِي سنّهَا لكم، وبارتكابكم الْمُنْكَرَات والبدع والمخالفات، والمنزل عَلَيْهِ: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم، فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا﴾ .
أولو الْأَمر: هم الْعلمَاء الآمرون بِالْمَعْرُوفِ الناهون عَن الْمُنكر الحاكمون بِمَا أنزل الله، وَإِلَّا فَلَا سمع وَلَا طَاعَة: ﴿فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾، أَي إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله، لَا إِلَى آراء الرِّجَال وأفهامهم فَإِنَّهَا ظلمات، وَمن لم يحكم ويتحاكم فِي محَال النزاع إِلَى كتاب الله وَسنة الرَّسُول الْأَعْظَم فَلَيْسَ مُؤمنا بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر، ذَلِك لِأَن الْمُؤمنِينَ: ﴿إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا﴾، وَأما هَؤُلَاءِ فَإِذا ﴿قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله، وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا﴾
اللَّهُمَّ صلى وَسلم على من كرمته تكريما، وعظمته تَعْظِيمًا وشرفته تَشْرِيفًا لَا يضاهي بِقَوْلِك: (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يحكمون فِيمَا شجر بَينهم، ثمَّ
1 / 1
لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا﴾، وَلذَلِك أقسم ﷺ بقوله: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يكون هَوَاهُ تبعا لما جِئْت بِهِ، فَلَا يكون الْإِنْسَان مُؤمنا إِلَّا إِذا قدم قَوْله ﷺ على أَقْوَال أهل الأَرْض جَمِيعًا حَتَّى الرُّسُل والأنبياء، فَمن لم يرض وَلم يقدم ويعظم وَيكرم ويفضل مَا جَاءَ عَن الرَّسُول الْأَعْظَم وَيَرْفَعهُ فَوق الفوق وعَلى كل مَا سواهُ يهدر دَمه، وَيَمُوت كَافِرًا، كَمَا جَاءَ عَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَيْهِ ﷺ فَقضى للمحق على الْمُبْطل، فَقَالَ المقضى عَلَيْهِ: لَا أرْضى، فذهبا إِلَى أبي بكر فَأقر مَا قضى بِهِ الرَّسُول الْأَعْظَم ﷺ، ثمَّ ذَهَبا إِلَى عمر فقصا عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَضرب عمر رَأس الَّذِي أَبى قبُول حكم الرَّسُول ﷺ فَقتله، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ﴾ الْآيَة.
فإياكم ثمَّ إيَّاكُمْ أَن تشاقوا الرَّسُول، احْذَرُوا وَعِيد: ﴿وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾، وَاعْلَمُوا أَن فِي هَذِه الْآيَة دَلِيلا على أَن كل مَا يَقُول باستحسان بِدعَة فِي الدّين يكون لَهُ نصيب وافر، وجزء كَبِير من الْوَعيد الْمَذْكُور فِيهَا، إِذْ استحسانه للبدعة، وحثه النَّاس على التَّعَبُّد بهَا مَا هُوَ إِلَّا مشاقة ومصادمة لهَذِهِ الْآيَة وَلقَوْله ﷺ: " وَشر الْأُمُور محدثاتها، وكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن ماجة. وَلقَوْله ﷺ: " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد " فمتفق عَلَيْهِ. وَلِهَذَا ولاه الله مَا تولى، أَي تَركه فِي ضلاله وطغيانه كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿نذرهم فِي طغيانهم يعمهون﴾، وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين﴾، ثمَّ يصليه جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا: (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله وَاتَّقوا الله إِن الله سميع عليم يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض
1 / 2
أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون﴾، ﴿فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم﴾ .
فيا عباد الله أقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الرَّسُول لَعَلَّكُمْ ترحمون، ﴿قل أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حمل وَعَلَيْكُم مَا حملتم، وَإِن تطيعوه تهتدوا وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين﴾، يَا أَيهَا النَّاس ﴿من يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون﴾ .
أَيهَا الْمُسلمُونَ كلكُمْ تدعون محبَّة الله وَرَسُوله فَإِن كَانَت دعواكم صَحِيحَة فاتبعوا كتاب الله وَسنة رَسُوله، ﴿قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم وَالله غَفُور رَحِيم﴾ .
وَاعْلَمُوا أَن ﴿من يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا﴾ ﴿وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وَله عَذَاب مهين﴾، ﴿وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا﴾ .
وَأما: ﴿من يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ ﴿وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب﴾ .
كَانَ رَسُول الله ﷺ يخْطب النَّاس على الْمِنْبَر وَيَقُول: " أما بعد: فَإِن اصدق الحَدِيث كتاب الله. وَخير الْهدى هدى مُحَمَّد ﷺ وَشر الْأُمُور محدثاتها، وكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة ". رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، زَاد النَّسَائِيّ: " وكل ضَلَالَة فِي النَّار " وروى أَبُو دَاوُد وَغَيره عَن الْعِرْبَاض ابْن سَارِيَة ﵁ أَنه قَالَ: " صلى بِنَا رَسُول الله ﷺ ذَات يَوْم ثمَّ أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت مِنْهَا الْعُيُون ووجلت مِنْهَا الْقُلُوب، فَقَالَ قَائِل: يَا رَسُول الله، كَأَنَّهَا موعظة مُودع، فَمَاذَا تعهد إِلَيْنَا؟ قَالَ:
1 / 3
أوصيكم بتقوى الله، والسمع وَالطَّاعَة، وَإِن تَأمر عَلَيْكُم عبد حبشِي، فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم فسيرى اخْتِلَافا كثيرا، فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين تمسكوا بهَا، وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ، وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور فَإِن كل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة ". وَفِي الْمسند وصحيح مُسلم عَنهُ ﷺ أَنه قَالَ: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وروى التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَصَححهُ أَنه قَالَ: سِتَّة لعنتهم ولعنهم الله وكل نَبِي مجاب: الزَّائِد فِي كتاب الله، والمكذب بِقدر الله، والمتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذلّ الله ويذل من أعز الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عِتْرَتِي مَا حرم الله، والتارك لسنتي ".
وَفِي البُخَارِيّ: " جَاءَ ثَلَاثَة رَهْط إِلَى بيُوت أَزوَاج النَّبِي ﷺ يسْأَلُون عَن عبَادَة النَّبِي ﷺ فَلَمَّا أخبروا كَأَنَّهُمْ تقالوها، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحن من النَّبِي ﷺ؟ قد غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، قَالَ أحدهم: أما أَنا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْل أبدا، وَقَالَ آخر: أَنا أَصوم الدَّهْر وَلَا أفطر، وَقَالَ آخر: أَنا أعتزل النِّسَاء فَلَا أَتزوّج أبدا، فجَاء رَسُول الله ﷺ فَقَالَ أَنْتُم الَّذين قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أما وَالله إِنِّي لأخشاكم لله أَتْقَاكُم لَهُ، لكني أَصوم وَأفْطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النِّسَاء. فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني ". وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَنهُ ﷺ: " فإياكم وَمَا ابتدع فَإِن مَا ابتدع ضَلَالَة ".
وَلَقَد كَانَ الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَشد النَّاس حرصا على الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة وأشدهم عَدَاوَة وبغضا للبدع وَأَهْلهَا. فقد قَالَ الصّديق ﵁: (أشهد أَن الْكتاب كَمَا نزل، وَأَن الدّين كَمَا شرع، وَأَن الحَدِيث كَمَا حدث، وَأَن القَوْل كَمَا قَالَ، وَأَن الله هُوَ الْحق الْمُبين. وَقَالَ أَيْضا فِي خطْبَة لَهُ: أَيهَا النَّاس إِنِّي قد وليت عَلَيْكُم بِخَيْرِكُمْ، فَإِن رَأَيْتُمُونِي على حق فَأَعِينُونِي، وَإِن رَأَيْتُمُونِي على بَاطِل فسددوني. أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت الله فِيكُم، فَإِذا عصيته فَلَا طَاعَة لي عَلَيْكُم، أَلا إِن أقواكم عِنْدِي الضَّعِيف حَتَّى
1 / 4
آخذ الْحق لَهُ، وأضعفكم عِنْدِي الْقوي حَتَّى آخذ الْحق مِنْهُ. أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله لي وَلكم) .
وَفِي خطْبَة أُخْرَى:
(إِنَّمَا أَنا مثلكُمْ، وَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّكُمْ ستكلفوني مَا كَانَ رَسُول الله ﷺ يطيقه، إِن الله اصْطفى مُحَمَّدًا على الْعَالمين وَعَصَمَهُ من الْآفَات، وَإِنَّمَا أَنا مُتبع وَلست بِمُبْتَدعٍ، فَإِن اسْتَقَمْت فتابعوني، وَإِن زِغْت فقوموني) .
وروى الدَّارمِيّ عَن ابْن مَسْعُود: " أَنه رأى جمَاعَة يسبحون ويحمدون وَيُكَبِّرُونَ جمَاعَة، فَقَالَ لَهُم: لقد جئْتُمْ ببدعة ظلما، أوفقتم مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه علما؟ " وروى ابْن عبد الْبر عَن عبد الله بن مُغفل قَالَ: " سمعني أبي وَأَنا أَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم - يَعْنِي فِي الصَّلَاة - فَقَالَ: يَا بني إياك وَالْحَدَث فِي الدّين، فَإِنِّي صليت مَعَ رَسُول الله ﷺ وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا يَقُولهَا، فَلَا نقلهَا إِذا أَنْت قَرَأت، وَقل: الْحَمد لله رب الْعَالمين، قَالَ: وَلم أر من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ رجلا أبْغض إِلَيْهِ حَدثا فِي الْإِسْلَام مِنْهُ) .
عَن عبد الله بن مَسْعُود ﵁ قَالَ: " خطّ لنا رَسُول الله ﷺ يَوْمًا خطا، ثمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيل الله، ثمَّ خطّ خُطُوطًا عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله، ثمَّ قَالَ: هَذِه سبل على كل سَبِيل مِنْهَا شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهِ " ثمَّ تَلا: ﴿وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله﴾ وَعَن مُجَاهِد: ﴿وَلَا تتبعوا السبل﴾ قَالَ: الْبدع والشبهات، وَعَن عبد الله بن الديلمي قَالَ: (بَلغنِي أَن أول ذهَاب الدّين ترك السّنة، يذهب الدّين سنة سنة، كَمَا يذهب الْحَبل قُوَّة قُوَّة) . وَعَن الْأَوْزَاعِيّ عَن حسان قَالَ: " مَا ابتدع قوم بِدعَة فِي دينهم إِلَّا نزع الله من سنتهمْ مثلهَا، ثمَّ لَا يُعِيدهَا إِلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَعَن أبي قلَابَة قَالَ: " مَا ابتدع رجل بِدعَة إِلَّا اسْتحلَّ السَّيْف " وَقَالَ
1 / 5
ابْن مَسْعُود ﵁: " اتبعُوا وَلَا تبتدعوا فقد كفيتم "، وَقَالَ ابْن عَبَّاس لمن سَأَلَهُ الْوَصِيَّة: " عَلَيْك بتقوى الله والاستقامة، اتبع وَلَا تبتدع ". وَقَالَ ابْن عمر: " كل بِدعَة ضَلَالَة وَإِن رَآهَا النَّاس حَسَنَة "، روى هَذِه الْأَخْبَار والْآثَار الإِمَام الدَّارمِيّ فِي سنَنه. وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن حُذَيْفَة قَالَ: " كل عبَادَة لَا يتعبدها أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ فَلَا تعبدوها، فَإِن الأول لم يدع للْآخر مقَالا " وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: أوصيكم بتقوى الله والاقتصاد فِي أمره وَاتِّبَاع سنة رَسُوله ﷺ، وَترك مَا أحدث المحدثون بعد " رَوَاهُ الدَّارمِيّ أَيْضا. وروى نوح الْجَامِع عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: " عَلَيْك بالأثر، وَطَرِيقَة السّلف، وَإِيَّاك وكل محدثة فَإِنَّهَا بِدعَة "، ذكره ابْن قدامَة فِي كِتَابه - ذمّ التَّأْوِيل - وَقَالَ ابْن الْمَاجشون سَمِعت مَالِكًا يَقُول: من ابتدع فِي الْإِسْلَام بِدعَة يَرَاهَا حَسَنَة فقد زعم أَن مُحَمَّدًا خَان الرسَالَة، لِأَن الله يَقُول: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ فَمَا لم يكن يَوْمئِذٍ دينا لَا يكون الْيَوْم دينا. وَقَالَ الشَّافِعِي ﵀: من اسْتحْسنَ - يَعْنِي بِدعَة - فقد شرع. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل ﵀: أصُول السّنة عندنَا التَّمَسُّك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ، والاقتداء بهم وَترك الْبدع، وكل بِدعَة فَهِيَ ضَلَالَة.
فالكتاب وَالسّنة والْآثَار وَالْأَخْبَار تفِيد النَّاظر فِيهَا بتبصر وتدبر أَن كل بِدعَة فِي الدّين صَغِيرَة أَو كَبِيرَة فِي الْأُصُول أَو الْفُرُوع، فِي العقائد أَو الْعِبَادَات أَو الْمُعَامَلَات فعلية أَو قولية أَو تركية، فَهِيَ ضَلَالَة، صَاحبهَا مؤاخذ معاقب عَلَيْهَا فِي النَّار، وبدعته مَرْدُودَة عَلَيْهِ غير مَقْبُولَة مِنْهُ. ذَلِك لقَوْله تَعَالَى: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾، وَفِي الحَدِيث: " مَا تركت من شَيْء يقربكم إِلَى الْجنَّة إِلَّا وَقد حدثتكم بِهِ، وَمَا من شَيْء يبعدكم عَن النَّار إِلَّا وَقد حدثتكم بِهِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَفِي رِوَايَة " تركتكم على الْبَيْضَاء، لَيْلهَا كنهارها، لَا يزِيغ عَنْهَا بعدِي إِلَّا هَالك ".
فحذار حذار إخْوَانِي أَن تتبعوا قَول من يَقُولُونَ باستحسان الْبدع فِي الدّين
1 / 6
أَو بتقسيمها، فَإِنَّمَا مثلهم فِي فهم كَلَام الله وَرَسُوله ﴿كَمثل الْحمار يحمل أسفارا بئس مثل الْقَوْم﴾، لَا تتبعوهم فتكونوا كَالَّذِين سفه الله أحلامهم، فَقَالَ الله تَعَالَى فيهم: ﴿اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ﴾ - أَي علماءهم وعبادهم - ﴿أَرْبَابًا من دون الله﴾ . وَقد فَسرهَا النَّبِي ﷺ بقوله " مَا صلوا لَهُم صَلَاة، وَلَا صَامُوا لَهُم يَوْمًا، وَلَكنهُمْ أطاعوهم فِي كل مَا قَالُوهُ، فَتلك كَانَت ربوبيتهم إيَّاهُم "، ونسأل الله أَن يجعلنا وَإِيَّاكُم مِنْهُم.
أما بعد فَإِنِّي كنت عَازِمًا على أَن يكون هَذَا الْكتاب كفهرس فَقَط للتّنْبِيه على بدع الصَّلَوَات والأذكار حبا فِي الِاخْتِصَار وحذرا من التَّطْوِيل وخوفا من كَثْرَة مصاريف الطباعة، وَثقل حمل الدّين على، ثمَّ اقتضاني النصح لإخواني أَن توسعت توسعا هائلا حَتَّى جعلت بعض فُصُول الْكتاب كتبا مُسْتَقلَّة ككتاب نيل المرام فِي فَضَائِل الصَّلَاة وَالسَّلَام على خير الْأَنَام، وَيصْلح الْفَصْل الْعشْرُونَ فِي صلوَات الشُّهُور والأسابيع الْمَوْضُوعَة لِأَن يكون كتابا مُسْتقِلّا، إِذْ بلغت صفحاته أَكثر من خمسين، وَكَذَا الْفَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِي الْقُرْآن وهدايته، وَكَذَا الْفَصْل الْأَخير يصلح أَيْضا أَن يكون كتابا ينْتَفع بِهِ الْمُسلمُونَ.
وَسبب ذَلِك لطف وظرف وكرم وتساهل وتسامح صَاحب مطبعة الْمنَار شَيخنَا ومولانا السَّيِّد الإِمَام رشيد رضَا ﵀، ووكيله المحبوب لدينا السَّيِّد عبد الرَّحْمَن عَاصِم حرسه الله وأبقاه ذخْرا للْمُسلمين فَإِنَّهُمَا أعطياني المطبعة والمكتبة كملك لي، وهما كَذَلِك مَعَ كثير من الجمعيات وَلَا غرو فَإِن آل رشيد رضَا أهل لكل بر وإحسان إِذْ هم سلالة سيد ولد عدنان، وهم أهل الدّين وَالتَّقوى وَالْعلم وَالصَّلَاح والإصلاح والورع وَهل عرف النَّاس الْيَوْم حقائق دين الْإِسْلَام إِلَّا بِوَاسِطَة هَذِه الأسرة الجليلة الْمُبَارَكَة الميمونة؟ فَرضِي الله عَنْهُم وأرضاهم وجزاهم عَن إحسانه إِلَيْنَا وَإِلَى الْمُسلمين خير مَا جزى بِهِ عباده الصَّالِحين.
وَقد كنت كتبت فِي غلاف كتابي " المنحة المحمدية " ورسالتي " القَوْل
1 / 7
الْجَلِيّ " مَا نَصه: قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي ﵀ بعد تأليف كتبه، " لَا بُد وَأَن يُوجد فِي كتبي الْخَطَأ لقَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا﴾، فَمَا وجدْتُم فِيهَا مِمَّا يُخَالف الْكتاب وَالسّنة فقد رجعت عَنهُ، وَنحن أَيْضا نقُول الْآن بقول هَذَا الإِمَام، ونطالب كَافَّة عُلَمَاء الْإِسْلَام، بنصحنا وإرشادنا إِلَى مَا يجدونه مُخَالفا للْكتاب وَالسّنة فِي جَمِيع مؤلفاتنا فَإِن هم فعلوا فَلَا يجدوني إِلَّا رجاعا للحق متقبلا لَهُ وشاكرا لَهُم على جميل صنعهم وَالسَّلَام
وَقلت فِي المنحة: وَقد هدَانَا الله إِلَى معرفَة بعض أَحَادِيث - بعد طبع الْكتاب - لم يحْتَج بهَا، وسنبينها إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الطبعة الثَّانِيَة. أه
وَكَانَ سَبَب ذَلِك انتقاد شَيخنَا السَّيِّد رشيد إِمَام الْمُفَسّرين والمحدثين علينا فِي بعض الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة فِي كتَابنَا " المنحة "، وَكَانَ انتقاده هَذَا علينا سَببا فِي كِتَابَة هَذِه الْكَلِمَة، وَفِي اشتغالنا بِعلم الحَدِيث النُّبُوَّة، وبالرد على من كُنَّا نعتقده أكبر رجل. وَقد انتظرت طَويلا من شُيُوخ الْأَزْهَر أَن يردوا عَليّ، كصاحب الْمنَار، أَو يرشدوني إِلَى الطَّرِيق السوي فَلم يَفْعَلُوا، فجزى الله هَذَا الْأُسْتَاذ الْجَلِيل السَّيِّد الإِمَام عني وَعَن الْمُسلمين خير الْجَزَاء.
ويجد الْقَارئ الْكَرِيم قبيل الْفَصْل الْأَخير جملَة أَحَادِيث منقولة من كتاب الْجَامِع الصَّغِير برموزها، وَهَذِه صُورَة رموزها عَن الْكتاب الْمَذْكُور (خَ) للْبُخَارِيّ (م) لمُسلم (ق) لَهما (د) لأبي دَاوُد (ت) لِلتِّرْمِذِي (ن) للنسائي (هـ) لِابْنِ ماجة (٤) لهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة (٣) لَهُم إِلَّا ابْن ماجة (حم) لِأَحْمَد فِي مُسْنده (عَم) لِابْنِهِ عبد الله فِي زوائده (ك) للْحَاكِم (خد) للْبُخَارِيّ فِي الْأَدَب (تخ) لَهُ فِي التَّارِيخ (حب) لِابْنِ حبَان فِي صَحِيحه (طب) للطبراني فِي الْكَبِير (طس) لَهُ فِي الْأَوْسَط (طص) لَهُ فِي الصَّغِير (ص) لسَعِيد بن مَنْصُور فِي سنَنه (ش) لِابْنِ أبي شيبَة (عب) لعبد الرَّزَّاق فِي الْجَامِع (ع) لأبي يعلى فِي مُسْنده (قطّ) للدارقطني (فر) للديلمي فِي مُسْند الفردوس (حل) لأبي نعيم فِي الْحِلْية
1 / 8
(هَب) للبيهقي فِي شعب الْإِيمَان (هق) لَهُ فِي السّنَن (عد) لِابْنِ عدي فِي الْكَامِل (عق) للعقيلي فِي الضُّعَفَاء (خطّ) للخطيب، وَقد وضع صَاحب الْجَامِع الصَّغِير ثَلَاثَة رموز فِي الْكتاب وَوضع أَمَام كل حَدِيث رمزا مِنْهَا الأول (صَحَّ) إِشَارَة إِلَى صِحَّته، وَالثَّانِي (ح) إِيمَاء إِلَى حسنه، وَالثَّالِث (ض) تنويها بضعفه.
ثمَّ إِنِّي عددت أَحَادِيث الْكتاب فَوَقَعت أَكثر من سَبْعمِائة حَدِيث أَكْثَرهَا صَحِيح وَحسن، والقليل مِنْهَا ضَعِيف، لم أذكرها إِلَّا فِي الْفَضَائِل وَالتَّرْغِيب والترهيب وَهِي مبينَة. وَقد بلغ عدد السّنَن تِسْعمائَة وَسِتِّينَ سنة. وَعدد الْبدع ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِينَ، وَعدد الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة والخرافات الفاشية أَكثر من مِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. وَهَذَا بِخِلَاف مَا زدناه من الْأَبْوَاب والفصول الْكَثِيرَة، التعليقات فِي هَذِه الطبعة الثَّانِيَة، وَهَذَا سفر مبارك جليل إِن شَاءَ الله تَعَالَى سميته (السّنَن والمبتدعات، الْمُتَعَلّقَة بالأذكار والصلوات) .
وَقد قسمت الْكتاب قسمَيْنِ. فالقسم الأول خَاص بسنن وبدع الصَّلَوَات، وَالْقسم الثَّانِي: خَاص بالأذكار الْمَشْرُوعَة والمبتدعة. وذيلته بخطاب عَام لكافة عُلَمَاء الْإِسْلَام دعوتهم فِيهِ إِلَى الْجِهَاد فِي الله وَالْأَمر وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.
هَذَا وَإِنِّي أرفع إِلَى رَبِّي أكف الضراعة قَائِلا: (رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين - رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان) وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم) .
اللَّهُمَّ اهدنا لما اخْتلف فِيهِ من الْحق بإذنك إِنَّك تهدي من تشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم. مُحَمَّد أَحْمد عبد السَّلَام.
1 / 9
(وَهَذِه مُقَدّمَة فِي مصطلح الحَدِيث النَّبَوِيّ)
(الحَدِيث الصَّحِيح): مَا اتَّصل سَنَده بعدول ضابطين بِلَا شذوذ وَلَا عِلّة خُفْيَة.
(الحَدِيث الْحسن): مَا عرف مخرجه وَرِجَاله، لَا كرجال الصَّحِيح.
(الحَدِيث الضَّعِيف): مَا قصر عَن دَرَجَة الْحسن، وتتفاوت درجاته فِي الضعْف بِحَسب بعده من شُرُوط الصِّحَّة.
(الحَدِيث الْمَرْفُوع): مَا أضيف إِلَى النَّبِي ﷺ من قَول أَو فعل أَو تَقْرِير، فَيشْمَل الْمُتَّصِل والمنقطع والمرسل والضعيف.
(الحَدِيث الْمَوْقُوف): مَا قصر على الصَّحَابِيّ من قَول أَو فعل وَلَو مُنْقَطِعًا.
(الحَدِيث الْمَوْصُول): وَيُسمى الْمُتَّصِل، مَا اتَّصل سَنَده رفعا ووقفا.
(الحَدِيث الْمُرْسل): مَا رَفعه تَابِعِيّ مُطلقًا إِلَى النَّبِي ﷺ.
(الحَدِيث الْمَقْطُوع): مَا جَاءَ عَن تَابِعِيّ من قَوْله أَو فعله مَوْقُوفا.
(الحَدِيث الْمُنْقَطع) مَا سقط من رُوَاته وَاحِد قبل الصَّحَابِيّ وَكَذَا بعده من مكانين فَأكْثر، بِحَيْثُ لَا يزِيد السَّاقِط على راو وَاحِد.
(الحَدِيث المعضل): مَا سقط من رُوَاته قبل الصَّحَابِيّ إثنان فَأكْثر مَعَ التوالي.
(الحَدِيث الْمُعَلق): مَا حذف من أول إِسْنَاده لَا وَسطه.
(الحَدِيث المدلس): ثَلَاثَة أَقسَام.
الأول: أَن يسْقط شَيْخه ويرتقي إِلَى شَيْخه، أَو من فَوْقه فيسند عَنهُ ذَلِك بِلَفْظ لَا يَقْتَضِي الِاتِّصَال صَرِيحًا، بل بِلَفْظ موهم لَهُ: كَأَن يَقُول: عَن فلَان، أَو قَالَ فلَان.
الثَّانِي: تَدْلِيس التَّسْوِيَة بِأَن يسْقط ضَعِيفا بَين ثقتين، فيستوي الْإِسْنَاد
1 / 10
وَيصير كُله ثِقَات، وَهُوَ شَرّ التَّدْلِيس، وَكَانَ بَقِيَّة بن الْوَلِيد أَكثر النَّاس تدليسا بِهَذَا النَّوْع.
الثَّالِث: تَدْلِيس الشُّيُوخ بِأَن يُسَمِّي شَيْخه الَّذِي سمع مِنْهُ بِغَيْر اسْمه الْمَعْرُوف، أَو ينْسبهُ أَو يصفه بِمَا لم يشْتَهر بِهِ.
(الحَدِيث الْغَرِيب): مَا انْفَرد فِيهِ راو بروايته، أَو بِرِوَايَة زِيَادَة فِيهِ، عَمَّن يجمع حَدِيثه وينقسم إِلَى غَرِيب صَحِيح كالأفراد المخرجة فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَإِلَى غَرِيب ضَعِيف: وَهُوَ الْغَالِب على الغرائب. وَإِلَى غَرِيب حسن، وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ مِنْهُ كثير.
(الحَدِيث الشاذ): مَا خَالف الرَّاوِي الثِّقَة فِيهِ جمَاعَة الثِّقَات بِزِيَادَة أَو نقص.
(الحَدِيث الْمُنكر): الَّذِي لَا يعرف مَتنه من غير جِهَة رَاوِيه، فَلَا متابع لَهُ وَلَا شَاهد.
(الحَدِيث المضطرب): مَا رُوِيَ على أوجه مُخْتَلفَة متدافعة على التَّسَاوِي فِي الِاخْتِلَاف من راو وَاحِد.
(الحَدِيث الْمَوْضُوع): الْكَذِب على رَسُول الله ﷺ. وَيُسمى المختلق. وَتحرم رِوَايَته مَعَ الْعلم إِلَّا للْبَيَان، وَالله ﷾ أعلم اه من كتاب أَسْنَى المطالب.
1 / 11
(الْبَاب الأول فِي تَعْرِيف السّنة والبدعة وتقسيمها)
السّنة: لُغَة الطَّرِيقَة والسيرة السُّرَّة، حميدة كَانَت أَو ذميمة، وَالْجمع سنَن مثل غرفَة وغرف. وَشرعا هِيَ مَا بَين بِهِ النَّبِي [ﷺ] كتاب الله تَعَالَى بِالْفِعْلِ، فَهِيَ طَرِيقَته المتبعة فِي بَيَان هَذَا الدّين الَّتِي جرى عَلَيْهَا أَصْحَابه قولا وفعلا وتقريرًا وتركا، وتنقسم إِلَى وَاجِبَة: كَصَلَاة الْجِنَازَة وَالْعِيدَيْنِ، ومؤكدة كَصَلَاة الْوتر عِنْد دُخُول الْمَسْجِد والكسوفين والركعتين اللَّتَيْنِ أَمر بهما سليك الْغَطَفَانِي والرواتب: كمقبل الظّهْر وَبعدهَا: وَبعد الْمغرب وَالْعشَاء وَقبل الْفجْر، والمندوبة: كالضجعة بعد رَكْعَتي الْفجْر. وكصلاة الضُّحَى والتراويح، وَبَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة والمواظبة على ذكر الله تَعَالَى، وكصيام التَّطَوُّع أَكثر شعْبَان وست من شَوَّال، وَيَوْم عَرَفَة، وتاسوعاء، وعاشوراء، وَالْأَيَّام الْبيض من كل شهر، والإثنين وَالْخَمِيس من كل أُسْبُوع وهلم جرا، وَسنة رَسُول الله [ﷺ] فِي المأمورات أَن نأتي مِنْهَا مَا استطعنا، وَفِي المنهيات اجتنابها كليًا، كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه [ﷺ] قَالَ: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فائتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ ".
(والبدعة): هِيَ الحَدِيث فِي الدّين بعد الْإِكْمَال، وَمَا استحدث بعد النَّبِي [ﷺ] من الْأَهْوَاء والأعمال. وَالْجمع بدع، كعنب كَذَا فِي الْقَامُوس، وَقيل: هِيَ مَا أحدث على خلاف الْحق المتلقى عَن رَسُول الله [ﷺ] وَجعل دينا قويمًا وسراطًا مُسْتَقِيمًا.
وتنقسم الْبِدْعَة إِلَى دينية ودنيوية: فَكل بِدعَة فِي الدّين ضَلَالَة، كَمَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله [ﷺ] وَأَصْحَابه، فَلَا يمكننا أَن نغير وَلَا نحرف وَلَا نؤول مَا قَالَ فِيهِ الرَّسُول: إِنَّه ضَلَالَة وَفِي النَّار، إِلَى أَنه مستحسن، لَكنا نقُول:
1 / 15
قد تكون الْبِدْعَة الضَّلَالَة كفرا صراحا، وَقد تكون من كَبَائِر الْمُحرمَات. وَقد تكون من صغائرها، وَلِهَذَا نقُول: إِن الْبِدْعَة الدِّينِيَّة تَنْقَسِم إِلَى أَقسَام أَرْبَعَة.
(الْقسم الأول): الْبِدْعَة المكفرة، وَهِي كدعاء غير الله من الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ، والاستغاثة بهم، وَطلب تفريج الكربات، وَقَضَاء الْحَاجَات مِنْهُم، وَهَذِه أعظم بِدعَة كيد بهَا الْإِسْلَام وَأَهله، وَقد فَشَتْ هَذِه الرزية فِي الْمُسلمين حَتَّى قل أَن يسلم مِنْهَا عَالم، فضلا عَن عَامي وجاهل إِلَّا من عصمَة الله. وَلِهَذَا ترى كثيرا مِمَّن ينتسبون للْعلم يؤلفون فِي ذَلِك النّظم والنثر، فَمن ذَلِك قَول بَعضهم:
(يَا سادتي من أمكُم لرغبة فِيكُم جبر ... وَمن تَكُونُوا ناصريه ينتصر)
وَمِنْه:
(يَا كعبة الْأَسْرَار أَنْت غياثنا ... يَا كاشف الكربات يَا شيخ الْعَرَب)
وَمِنْه:
(عساكي أَن تَكُونِي لي مغيثة ... أجيبي لي دعائي يَا أنيسَة)
(وَكَيف أضام إِذْ أَنْت الرئيسة ... وصاحبة الْمَوَاهِب يَا نفيسة)
وَكَذَا قَوْلهم: الْعَارِف لَا يعرف، والشكوى لأهل الْبَصِير عيب، مدد يَا سَيِّدي فلَان، نظرة إِلَيْنَا بِعَين الرِّضَا، راعني أَنا محسوبك، وَكَذَا قَوْلهم: مَلْعُون ابْن مَلْعُون من كَانَ فِي شدَّة أَو فِي ضيق وَلم يقل يَا سِتّ أَو يَا سيد، وَهَذَا هُوَ عين الشّرك الْأَكْبَر.
(الْقسم الثَّانِي): الْبِدْعَة الْمُحرمَة، وَهِي كالتوسل إِلَى الله بالأموات، وَطلب الدُّعَاء مِنْهُم، وَكَذَا اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد وَالصَّلَاة إِلَيْهَا. وَإِيقَاد السرج عَلَيْهَا وَنذر الشموع والذبائح لَهَا، وَالطّواف بهَا، واستلامها، وَقد عدهَا ابْن حجر الهيتمي فِي كِتَابه الزواجر: من الْكَبَائِر، فَهِيَ بِدعَة ضَلَالَة، لَكِنَّهَا دون الَّتِي قبلهَا.
(الْقسم الثَّالِث): الْبِدْعَة الْمَكْرُوهَة تَحْرِيمًا وَهِي كصلاتهم فَرِيضَة الظّهْر
1 / 16
بعد الْجُمُعَة، فَإِن هَذَا شرع لم يَأْذَن بِهِ الله وَلَا رَسُوله، وكقراءة الْقُرْآن بِالْأُجْرَةِ، وكالسبحة، والعتاقة، والختمة الَّتِي يعملونها عَن الْمَيِّت، وكالاحتفال بِدُعَاء لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، وبليلة مولد النَّبِي [ﷺ]، وكرفع الصَّوْت بالصلات وَالتَّسْلِيم عقب التأذين، وكالصلاة الَّتِي يصلونها فِي أَوَاخِر رَمَضَان لتكفير الْفَوَائِت من صلوَات الْعَام الْمَاضِي، وكالجهر بِقِرَاءَة سُورَة الْكَهْف فِي الْمَسَاجِد إِذْ السّنة الْإِسْرَار بهَا وأمثال ذَلِك. وَهَذِه أَيْضا بدع ضلالات كَمَا قَالَ الْمَعْصُوم [ﷺ] لَكِنَّهَا دون اللَّتَيْنِ قبلهَا.
(الْقسم الرَّابِع): الْبِدْعَة الْمَكْرُوهَة تَنْزِيها، وَهِي كالمصافحة فِي أدبار الصَّلَوَات، وَكَذَا تَعْلِيق الستائر على المنابر، وكدعاء عَاشُورَاء وَدُعَاء أول السّنة وَآخِرهَا، وَالله أعلم.
وَقد ذهب كثير من محققي الْعلمَاء إِلَى أَن كل بِدعَة فِي الدّين صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة، فَهِيَ مُحرمَة، وَاسْتَدَلُّوا لذَلِك بالأحاديث الَّتِي جَاءَت فِي ذمّ الْبدع بصيغ الْعُمُوم كَحَدِيث: " فَإِن كل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار، وَحَدِيث: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وَحَدِيث: " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد "، وَهَذَا مُوَافق لما ذَكرْنَاهُ، لِأَن الْمُحرمَات لَيست كلهَا كَبَائِر وَلَا صغائر، بل مِنْهَا مَا يخرج صَاحبه من الدّين وَالْعِيَاذ بِاللَّه، وَمِنْهَا مَا هُوَ من الْكَبَائِر، وَمِنْهَا مَا هُوَ من الصَّغَائِر، وَمِنْهَا مَا هُوَ دون ذَلِك، وَالله سُبْحَانَهُ قَالَ: ﴿كل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾ وَالله تَعَالَى أعلم.
وتقسيم بعض متأخري الْفُقَهَاء الْبِدْعَة إِلَى خَمْسَة أَقسَام خطأ وَظن: ﴿وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا﴾ بل هَذَا مِنْهُم مشاقة ومحادة للرسول [ﷺ] الْقَائِل: " وكل بِدعَة ضَلَالَة، فَلهم نصيب من الْوَعيد الْمَذْكُور فِي آيَة ﴿وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم﴾ .
1 / 17
أما الْبِدْعَة فِي الْمصَالح وَالْمَنَافِع الدُّنْيَوِيَّة المعاشية، فَلَا حرج مَا دَامَت نافعة غير ضارة، وَلَا جَارة إِلَى شَرّ يعود على النَّاس، وَلَا ارْتِكَاب محرم، أَو هدم أصل من أصُول الدّين، فَالله سُبْحَانَهُ يُبِيح لِعِبَادِهِ أَن يخترعوا لمصَالح دنياهم وَأُمُور معاشهم مَا شَاءُوا، وَقد قَالَ تَعَالَى: ﴿وافعلوا الْخَيْر لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ (وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى، وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان﴾ وَقَالَ [ﷺ]: " من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا "، الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، فَإِن لم يحمل هَذَا الحَدِيث على الْمصَالح الكونية كَانَ مَعْنَاهُ أَن يخترع كل ضال زنديق فِي دين الْإِسْلَام مَا شَاءَ، فيزيد فِي رَكْعَات الصَّلَاة وسجداتها وَينْقص مِنْهَا مَا شَاءَ، ويخترع أذكارًا وأدعية وعبادات وصلوات وصيامًا غير مَا نَحن عَلَيْهِ، وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ إِفْسَاد الدّين، وإضلال الْمُسلمين، وَهل يتَّفق هَذَا مَعَ قَوْله [ﷺ] . " وَشر الْأُمُور محدثاتها، وكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار "، وَقَوله [ﷺ]: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد " وَقَول ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه﴾ قَالَ: تبيض وُجُوه أهل السّنة، وَتسود وُجُوه أهل الْبِدْعَة؟ .
هَذَا وعَلى الَّذِي قُلْنَا ينطبق قَول الشَّافِعِي، ﵀، الْبِدْعَة بدعتان، بِدعَة محمودة، وبدعة مذمومة، فَمَا وَافق السّنة فَهُوَ مَحْمُود، وَمَا خَالف السّنة فَهُوَ مَذْمُوم.
(وَقَول) بعض متأخري الْفُقَهَاء. إِن من ترك سنة رَسُول الله [ﷺ]، يعاتبه النَّبِي [ﷺ] يَوْم الْقِيَامَة بقوله: " يَا فلَان لم تركت سنتي؟ "، فَعِنْدَ ذَلِك يتساقط وَجه المعاتب - قَول على الله بِغَيْر علم - وَوُقُوع مثل هَذَا فِي كتب ودروس كثير من أَرْبَاب العمائم عَجِيب وغريب، وَمَا أَدْرِي مَا الَّذِي أعماهم عَن قَوْله [ﷺ]: " وَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني " رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَقَوله: " سَبْعَة لعنتهم - وَفِيه التارك لسنتي " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَحسنه صَاحب الْجَامِع الصَّغِير وشارحه، مَا أصمهم وأعمى قُلُوبهم وأبصارهم عَن خير الْهدى هَدْيه [ﷺ] إِلَّا إعراضهم عَن الْكتاب وَالسّنة!
1 / 18
(الْبَاب الثَّانِي فِي جَوَاز الْبَوْل من قيام وَبَيَان قبح استنكار النَّاس لذَلِك جهلا)
عَن حُذَيْفَة قَالَ: " كنت مَعَ النَّبِي [ﷺ] فَانْتهى إِلَى سباطة قوم فَبَال قَائِما فتنحيت، فَقَالَ: ادنه. فدنوت حَتَّى قُمْت عِنْد عَقِبَيْهِ. فَتَوَضَّأ فَمسح على خفيه " رَوَاهُ أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ، وَمُسلم، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ. وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه.
أما مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: " نهى عَن رَسُول الله [ﷺ] أَن يَبُول الرجل قَائِما " فَفِيهِ عدي بن الْفضل، وَهُوَ مَتْرُوك.
وَأما رِوَايَة عَائِشَة، ﵂ قَالَت: " من حَدثكُمْ أَن رَسُول الله [ﷺ] بَال قَائِما، فَلَا تُصَدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُول إِلَّا جَالِسا " فَرَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَهِي ضَعِيفَة، وَهَذَا مَحْمُول على مَا وَقع مِنْهُ فِي الْبيُوت. وَأما فِي غير الْبيُوت، فَلم تطلع هِيَ عَلَيْهِ، وَقد حفظه حُذَيْفَة.
وَالْقَاعِدَة أَن كل مَا ورد فِي النَّهْي عَن الْبَوْل من قيام، فَهُوَ ضَعِيف، كَحَدِيث عمر: " رَآنِي النَّبِي [ﷺ] . وَأَنا أبول قَائِما، فَقَالَ: يَا عمر لَا تبل قَائِما، فَمَا بلت قَائِما بعد "، وَهَذَا فِيهِ ابْن أبي الْمخَارِق، وَهُوَ ضَعِيف. وكحديث ابْن عمر: " مَا بلت قَائِما مُنْذُ أسلمت " وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا. وَكَذَا حَدِيث " ثَلَاث من الْجفَاء: أَن يَبُول الرجل قَائِما، أَو يمسح جَبهته قبل أَن يفرغ من صلَاته، أَو ينْفخ فِي سُجُوده ".
وَقد ثَبت الْبَوْل من قيام عَن عمر، وَزيد بن ثَابت، وَابْن عمر، وَسَهل
1 / 19
ابْن سعد، وَأنس وَعلي، وَأبي هُرَيْرَة ﵃؛ وَكَذَا ابْن سِيرِين، وَعُرْوَة ابْن الزبير، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: الْبَوْل جَالِسا أحب إليَّ. وَقَائِمًا مُبَاح، وَكله ثَابت عَن الرَّسُول [ﷺ]، وَقد حكى الْخطابِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا عَن الشَّافِعِي: أَن الْعَرَب كَانَت تستشفى لوجع الصلب بالبول قَائِما.
(فصل)
فَمن الغباوة والجهالة، إِنْكَار كثير من النَّاس على من يَبُول قَائِما، ويرمونه مرّة بِأَنَّهُ يَبُول كاليهود، وَمرَّة يَقُولُونَ: إِنَّه يرفع رجله ويبول كَالْكَلْبِ، وَيَحْتَقِرُونَهُ وينتقصونه بعد ذَلِك، مَعَ أَنه على الْحق وهم على الْبَاطِل وَهُوَ على سنة، وهم على جَهَالَة وبدعة.
نعم، يجب على البائل من قيام أَن يستر عَوْرَته عَن أعين النَّاس، وَأَن يخْتَار مَكَانا رخوًا، لِئَلَّا يُصِيبهُ الرشاش " وَأَن لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة، وَأَن لَا يُقَابل الرّيح " فَإِن فعل ذَلِك وَأفهم هَؤُلَاءِ وأصروا على الْإِنْكَار عَلَيْهِ. فليبل عَلَيْهِم.
وَمن غَرِيب مَا يَقع: أَن بعض النَّاس يذهبون بأبنائهم الصغار الَّذين يَجدونَ مِنْهُم نشاطًا إِلَى مراحيض بعض المقبورين الْمَشَايِخ من الْأَمْوَات، فيسقونهم من دورة الْمِيَاه، وَمن حِيَاض المراحيض راجين لأبنائهم بذلك الْهِدَايَة وَحُصُول بركَة المقبور.
(الْبَاب الثَّالِث فِي بعض سنَن الِاسْتِنْجَاء والاستجمار وبدعهما)
السّنة لقَاضِي الْحَاجة أَن يَقُول؟؟ دُخُوله مَا صَحَّ عَنهُ [ﷺ] أَنه كَانَ يَقُوله إِذا دخل الْخَلَاء: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث "
1 / 20
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَصْحَاب السّنَن، ثمَّ يدْخل بِشمَالِهِ، وَعند الْخُرُوج يخرج بِيَمِينِهِ، وَيَقُول مَا جَاءَ عَنهُ [ﷺ]: " الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني " روى النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه. وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد، وَأَصْحَاب السّنَن: " أَنه [ﷺ]، كَانَ إِذا خرج من الْغَائِط قَالَ: غفرانك، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، أما زِيَادَة: وَلَا عذابك بعد قَوْلهم غفرانك، فَزِيَادَة فِي الدّين، وَجَهل وبدعة يَنْبَغِي تَركهَا.
وَصَحَّ فعل النَّبِي [ﷺ] للاستجمار بالأحجار، كَمَا صَحَّ استنجاؤه بِالْمَاءِ، فَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود، ﵁، قَالَ: " أَتَى النَّبِي [ﷺ] الْغَائِط، فَأمرنِي أَن آتيه بِثَلَاثَة أَحْجَار، فَوجدت حجرين، والتمست الثَّالِث فَلم أَجِدهُ، فَأخذت رَوْثَة فَأَتَيْته بهَا فَأخذ الحجرين وَألقى الروثة وَقَالَ: هَذَا ركس " زَاد أَحْمد، وَالدَّارَقُطْنِيّ: " ائْتِنِي بغَيْرهَا " وَفِي البُخَارِيّ أَيْضا عَنهُ [ﷺ]: " وَمن استجمر فليوتر " وَفِي مُسلم عَن سلمَان: لقد نَهَانَا رَسُول الله [ﷺ] أَن نستقبل الْقبْلَة بغائط أَو بَوْل. أَو أَن نستنجي بِالْيَمِينِ. أَو أَن نستنجي بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار. أَو أَن نستنجي برجيع أَو عظم، فالإستجمار ثَابت فِي الصِّحَاح. وَالسّنَن. والمسند. والموطأ وَغَيرهم. وَفِي أَقْوَال أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة. وَجَمِيع الطوائف من أهل الْإِسْلَام. وَقد قَالَ التِّرْمِذِيّ وَغَيره: حَدِيث سلمَان. حَدِيث صَحِيح. وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي [ﷺ] وَمن بعدهمْ. رَأَوْا أَن الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ يُجزئ وَإِن لم يسْتَنْج بِالْمَاءِ، إِذا أنقى أثر الْغَائِط وَالْبَوْل. أه.
1 / 21
إِذا فهمت هَذَا فَاعْلَم أَن من الْجَهْل والبدعة اعْتِقَاد أَن صَلَاة المتسجمر بالأحجار مَعَ وجود المَاء بَاطِلَة، وَقد سرى هَذَا الِاعْتِقَاد الْفَاسِد إِلَى كثير من أهل الْعلم، فَيَنْبَغِي الإقلاع عَنهُ، وَمن قَالَ: إِن الِاسْتِجْمَار لَا يجوز إِلَّا عِنْد فقد المَاء يُسْتَتَاب، فَإِن تَابَ وَإِلَّا عذر؛ وَنقل عَن مَالك أَنه أنكر استنجاء النَّبِي [ﷺ] بِالْمَاءِ وَالْأَحَادِيث قد أَثْبَتَت ذَلِك. فَلَا سَماع لإنكار مَالك، اهـ. مِمَّن سبل السَّلَام.
وَقد ضيق بعض الموسوسين من المتعالين فِي ذَلِك تضييقًا شَدِيدا، حَتَّى زعم بَعضهم أَن الْمُصَلِّي إِذا وضع يَده على مصل بجواره مستجمر بالأحجار بطلت صلَاته، لِأَنَّهُ وَضعهَا على متلبس بِالنَّجَاسَةِ بِزَعْمِهِ الْبَارِد الْفَاسِد، الْمُخَالف لقَوْل وَفعل المشرع الْمَعْصُوم [ﷺ] وصحابته.
وَحَدِيث: " من أحدث وَلم يتَوَضَّأ فقد جفاني وَمن أحدث وَتَوَضَّأ وَلم يرْكَع فقد جفاني. وَمن أحدث وَتَوَضَّأ وَركع وَدَعَانِي فَلم أجبه فقد جفوته، وَلست بِرَبّ جَاف، مَكْذُوب مفترى على رَسُول الله [ﷺ] كَمَا قَالَه الْعَلامَة الصَّنْعَانِيّ فِي رسَالَته.
وَلم يكن رَسُول الله [ﷺ] يصنع شيئاُ مِمَّا يصنعه المبتلون بالوسواس من السلت ونتر الذّكر، والنحنحة والقفز ومسك الْحَبل وطلوع الدرجَة وحشو الْقطن فِي نخس الإحليل وصب المَاء فِيهِ وتفقده الفينة بعد الفينة والوجور، وكل ذَلِك من بدع أهل الوسواس وَمن كيد الشَّيْطَان.
(الْبَاب الرَّابِع فِي ذكر بعض سنَن الْحيض وخرافات النِّسَاء فِيهِ)
وَطْء الْحَائِض فِي فرجهَا حرَام. لقَوْله تَعَالَى: ﴿ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض﴾، وَلقَوْله [ﷺ]: " اصنعوا كل
1 / 22
شَيْء إِلَّا الْجِمَاع "، رَوَاهُ الْجَمَاعَة. وروى البُخَارِيّ فِي تَارِيخه عَن مَسْرُوق قَالَ: " سَأَلت عَائِشَة ﵂ مَا للرجل من امْرَأَته إِذا كَانَت حَائِضًا؟ قَالَت: كل شَيْء إِلَّا الْفرج "، وَقد عدهَا ابْن حجر من الْكَبَائِر فِي كِتَابه الزواجر.
(فصل فِي كَفَّارَة من أَتَى حَائِضًا. وَبَيَان أَنَّهَا لَا تَصُوم وَلَا تصلي وَأَنَّهَا تقضي الصَّوْم دون الصَّلَاة)
عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي [ﷺ] فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته وَهِي حَائِض: " يتَصَدَّق بِدِينَار أَو بِنصْف دِينَار "، رَوَاهُ الْخَمْسَة، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَقَالَ [ﷺ]: " تمكث اللَّيَالِي مَا تصلي، وتفطر فِي شهر رَمَضَان، فَهَذَا نُقْصَان دينهَا "، وَرَوَاهُ مُسلم وَعَن معَاذَة قَالَت: " سَأَلت عَائِشَة فَقلت: مَا بَال الْحَائِض تقضي الصَّوْم وَلَا تقضي الصَّلَاة؟ قَالَت: كَانَ يصيبنا ذَلِك مَعَ رَسُول الله [ﷺ] فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم. وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة " رَوَاهُ الْجَمَاعَة.
فصل فِي جهالات وخرافات النِّسَاء فِي الْحيض
فَمن ذَلِك: صيامهن رَمَضَان " وَهن حيض. مَعَ تركهن للصَّلَاة وقبيل الْإِفْطَار يَأْخُذن جرعة مَاء. وَهَذَا مِنْهُنَّ حرَام، وتركهن للصَّلَاة كفر.
وَمن ذَلِك أَنَّهُنَّ يأمرن المراهقات مِنْهُنَّ عِنْد أول حَيْضَة باحتضان نَخْلَة أَو زير لتسمن، ويتضخم لَحمهَا، وَهِي خرافة حقيرة.
وَمن ذَلِك: اعْتِقَاد كثير من النَّاس أَن الْحَائِض إِذا مرت فِي مزارع الباذنجان أحرقتها. وَهَذَا جهل فاضح وَكَلَام فارغ سمج.
وَمن ذَلِك: اعتقادهن أَن الْحَائِض إِذا دخلت على من بِعَيْنِه رمد لَا بُد من ذهَاب بَصَره، وَهُوَ اعْتِقَاد بَاطِل أَيْضا.
1 / 23