وطالت المناوشات بين الدولة المدبرة والدولة المقبلة حتى انتهت آخر الأمر بقيام الدولة المانشوية، واستقر لها الحكم شيئا فشيئا مع استمرار المقاومة في الجنوب، حيث تشتد المقاومة الوطنية دائما؛ لأنه موطن الصين الصميم، ولأنه معقل الحضارة على الدوام لما ورثه من الأسلاف وما يستفيده من معاملة الأمم الأخرى التي لا تني ترسل إليه بالسفن والمتجرين يتزودون من موانئه ويحملون السلع من بلادهم إليه.
واتخذت دولة المانشو خطتين مختلفتين في سياسة الجنوب على الخصوص: سياسة من جهة الثقافة وسياسة من جهة العادات والأخلاق، فاجتهدت في اقتباس الثقافة الجنوبية؛ لأنها لم تستطع أن تنكر مزية الجنوب فيها، وأمرت باستنساخ جميع الكتب النادرة فملأت بها خزائن القصور، وقربت إليها العلماء والمتعلمين للإشراف عليها ومدارستها، وفتحت لهم أبواب الدواوين يرتقون إلى مناصبها بالامتحان جريا على ألسنة الموروثة من زمن بعيد.
أما من جهة العادات والأخلاق فقد كانت تنظر إلى الشعب الصيني نظرة المترفع المحتقر؛ لأنها اعتقدت فيه النعومة والتأنث وضعف المراس، فحرمت على أبناء الشمال أن يتزوجوا من بنات الشعب أو يزوجوا بناتهم لأبنائه، وفرضت على الصينيين أن يرسلوا ضفائرهم كما يفعل المغوليون، ودارت الأيام دورتها وعاد الخصيان إلى صولتهم وتحكمت جارية بعد جارية في العواهل القاصرين، وتيقظت النخوة الوطنية بعد حين فرجعت جماعة البشنين الأبيض إلى نشاطها الأول، وقادها في هذه المرة زعيم يتستر وراء الدين ليخفي مقاصده السياسية التي لم تكن واضحة كل الوضوح، وكانت المسيحية قد دخلت الصين فادعى «هونج» قائد الجماعة أنه أخو السيد المسيح، وحرم الأفيون والخمر وقضى في عقوبة الزنى بالموت، وعرفت دعوته باسم دعوة «التايبنج تيان كو» أي مملكة السلام السماوية، فعامله الغربيون المسيحيون معاملة الدجالين؛ لأنهم لم يقبلوا هذا المذهب من المسيحية، وعامله الصينيون المحافظون معاملة مارق؛ لأنه يعيب عقائدهم الوطنية، وجاء المغامر الأمريكي وارد
Ward
والمغامر الإنجليزي جوردن
Gordon
في طلب الفتوح المجهولة، فدخلا في خدمة الأسرة المالكة ودربا لها الجنود المنظمة للقضاء على الثورة، وتم القضاء عليها بتأييد السياسة الاستعمارية؛ لأنها خشيت مغبة انتصار الثورة على بلاط بكين، ومعه كانوا يعقدون العقود لاستغلال الأسواق والموارد وتثبيت مزايا المعاهدات. •••
كان إخفاق الدعوة إلى مملكة السلام السماوية نكبة على الصين في ظاهر الأمر؛ لأنها أطالت أجل الأسرة المالكة التي أفسدت البلاد ووقفت وقفة المستيئس العنيد لتحول دون إصلاحها وتبديل أي نظام فيها من النظم العتيقة التي جمدت عليها.
ولكن هذا الإخفاق إنما كان نكبة في الظاهر، نعمة في الواقع؛ لأن الصين إنما كانت في حاجة إلى ثورة يعرف دعاتها ما يعوز البلاد وما يكفل لها السلامة والتقدم، ولم تكن الدعوة إلى مملكة السلام السماوية أهلا لهذه المهمة الضخمة، بل لعلها كانت نكبة أخرى تخلف النكبة التي ابتليت بها من الأسرة المالكة ، وتستدعي بعد ذلك علاجا أقوى من علاج الجمهور على القديم.
وكأنما ادخر القدر لهذه المهمة ثورة أخرى تدرك الصين ضرورتها بعد يقظة قاسية من فعل الحوادث؛ تفتح عيونها وتلمسها بأيديها مواضع العجز والقصور منها، وتلك هي ثورة «سن ياتسن» الذي لقب حقا بأبي الصين الحديثة.
صفحة غير معروفة