ولفتها الخيبة بصورة محزنة، ثم أطبقت شفتيها في غضب أحال سحنتها نذيرا بالشر حتى توقع كارثة أمام الجلوس، ولكنها قامت وهي تقول في سخرية وتحد: يخلق من الشبه أربعين.
وشعر لشدة انفعاله بدوار، ولم يصدق أن المعركة ستقف عند هذا الحد، وكلما تذكر سحنتها المنقلبة ارتعد وأيقن أنها تخفي نمرة تحت جلد البنت المرحة، ولبث في ذهوله لا يدري كم لبث حتى انتبه إلى أن المطر قد كف عن الهطول، وأن فرجة تتسع في الأفق ينبثق منها شعاع وان مغسول. ونهض بلا تردد، فارتدى معطفه ومضى دون أن يلتفت ناحيتها، وعندما رجع إلى العمارة بعد منتصف الليل وجد في انتظاره برقية مرسلة من العائلة لتنبئه بوفاة والدته.
18
تقرر تشييع الجنازة من القبة الفداوية عصر اليوم التالي، وقد سبق عيسى إلى هناك ليستقبل المشيعين، فصادف وصوله قدوم حسن ابن عمه في سيارته المرسيدس، ولم يدهش للسيارة بطبيعة الحال، ولكن منظرها أثاره، وعجب للتحسن الواضح الذي طرأ على صحة ابن عمه، والاستعلاء الذي شد قامته، والسيادة المطلقة من عينية، وتصافحا ووقفا ينتظران تحت ظل الشجرة، وجعل حسن يتفحصه ويقول: ليست صحتك كما كنت أنتظر!
فقال عيسى وهو يستعرض أحزانه في لفتة خاطفة: لعل الجو لم يناسبني!
فقال الشاب بلهجة تقريرية قاطعة: رحلة لا معنى لها، ولكنك رجل عنيد!
وقال عيسى إنه لم يعدل عن حلمه القديم في تزويجه من أخته ، ثم جاء الأصدقاء سمير عبد الباقي وإبراهيم خيرت وعباس صديق، وبعض الشيوخ والنواب السابقين، وجاءت أفواج من الناس لا حصر لهم لتعزية حسن، فاكتظ بهم السرادق على سعته، وكانت لحظة حرجة حين هبط علي سليمان من سيارته. وقد استقبله حسن، ولم ير عيسى بدا من استقباله، فتصافحا وتلقى تعزيته دون أن يتبادلا نظرة واحدة، وتتابعت الخطوات التقليدية واحدة بعد أخرى، ولم يخرج عيسى عن رزانته إلا ساعة الدفن، فاغرورقت عيناه رغم ما بذل من جهد صادق لضبط مشاعره، وقد أشرف على جميع الإجراءات بنفسه. ولم يستطع أن يقاوم الإغراء الأبدي، فألقى بنظرة طويلة إلى جوف القبر، وشعر برغبة في الخلو بنفسه ليقول لها أشياء هامة، ثم وثب إلى مخيلته موقف الوداع الأخير بينه وبين أمه في البيت القديم وقد لثمت جبينه، وقالت: افعل ما تشاء، وليحرسك المولى أينما تكون، أما أنا فسأحبس دموعي حتى تذهب بالسلامة!
ولا يكاد يذكر تعابير وجهها، لأنه لم ينعم فيه بالنظر، ولكن كانت يدها باردة منتفضة، وانتحى جانبا عندما بدأت التلاوة الجماعية، وتبادل وأصحابه نظرات متعاطفة أكثر من مرة، وسأل نفسه بتأنيب «لم تحزن أكثر مما ينبغي؟» ثم قال لنفسه أيضا بحماس مريح لم يخل من شماتة: «هذا هو المصير الأخير، لكل مسكين ولكل جبار، أجل ولكل جبار!»
واقتصر العزاء في البيت ليلا على الأهل والأصدقاء الثلاثة، أما علي سليمان فلم يحضر، وتجنب عيسى الانتقال إلى الحريم كي لا يرى آل عمه، ولكنه تساءل باهتمام: هل حضرت سوسن هانم وسلوى؟ وفي الحجرة التي جمعته مع سمير وعباس وإبراهيم وحسن، شهد صورة أقرب ما تكون إلى الفكاهة، إذ لم يجرؤ أحد من أصدقائه على الإفصاح عن مشاعره السياسية في حضور حسن، ولما كانت السياسة جزءا لا يمكن إهماله في أي اجتماع فلم يروا بدا من النفاق، فنوهوا بالأعمال التاريخية المذهلة، كإلغاء النظام الملكي والقضاء على الإقطاع والجلاء، وبخاصة الجلاء؛ ذلك الحلم القديم. ولم يشترك عيسى في الحديث إلا قليلا للغاية؛ لغلبة الإعياء عليه، ولشعوره بالفراغ والحزن ، ودارى سخريته من الموقف بالتظاهر بالإصغاء إلى تلاوة القرآن المنبعثة من الصالة، حيث تربع مقرئ من الدرجة الثالثة. وقال لنفسه إن حسن بات ركنا خطيرا، يعمل له ألف حساب، ألا يبدو هذا مضحكا؟! واستسلم للشعور العجيب بأن أمه لم تمت، أو أنها لا تزال حية بطريقة ما، أو أن روحها لم تغادر البيت بعد. ثم ذكر بدهشة حلم الجلاء القديم، وكيف أصغى إلى أنباء إعلانه بارتياح فاتر مشوب بالغيظ لا لشيء إلا لأنه لم يتحقق على يد حزبه، وما تمالك أن قال: الحقيقة أن الجلاء ثمرة للماضي!
ولم يعلق أحد من الأصدقاء بكلمة، على حين نشط حسن للبرهنة على فساد هذه الفكرة، وإذا بإبراهيم خيرت يقول: الحقيقة أن جميع ثوراتنا القديمة ثورات بلا نتائج حاسمة، ثم جاءت هذه الثورة لتحقق رسالات الثورات القديمة، بالإضافة إلى أهدافها الذاتية.
صفحة غير معروفة