فقال عيسى متشوقا لمعرفة أي جديد: شهدت جانبا منه، يا له من يوم أسود!
وأحنى رأسه الكبير المستطيل حتى ترامت صفحة شعره المجعد أمام عيني الباشا، ثم رفعه مقطبا ليتطلع إليه بوجهه المثلث الذي ينبسط عند الجبين ويضيق رويدا حتى يرتكز على ذقن مدبب، وتساءل الباشا: إذن جئت والقاهرة تحترق؟ - نعم، كانت الجحيم نفسه يا باشا. - يا خسارة! ... وكيف وجدت الحال هناك؟ - الشبان في غاية من الحماس ولكنهم في حاجة ماسة إلى السلاح، أما مذبحة البوليس فقد هزت القلوب هزا. - معركة ظالمة مشئومة.
فقال عيسى بضيق: نعم، إننا ندفع دفعا نحو ...
وتلاشت الكلمة الأخيرة بين شفتيه في إشفاق فتلاقت أعينهما في كآبة، وسأله الباشا: ماذا يقول الناس عنا؟ - الروح الوطنية عالية جدا، أما أعداؤنا فيقولون إننا افتعلنا معركة لنشغل الناس بها عنا.
فانحرف جانب فيه في احتقار قائلا: سيجدون دائما ما يقولونه، أوغاد ... أوغاد!
وبينهما قام خوان، وفوق الخوان إبريق مفضض وطبق بسكوت، فطلب الباشا إلى عيسى - دون كلفة - أن يملأ قدحين، وراحا يحتسيان بلا لذة، وفي أثناء ذلك امتد بصر عيسى إلى صورة سعد زغلول المعلقة في الجدار فوق المكتب الفخم إلى يمين مجلسهما، وقال عيسى: تصور سعادتك أنني لم أستطع الاتصال بوزيري حتى الآن.
فربت الباشا على شاربه الفضي برقة وقال: قل في هذا اليوم ما شئت، أين الوزير؟ .. لا أحد يدري، أين البوليس؟ .. لا أحد يدري، أين الجيش؟ .. لا أحد يدري؟ اختفى الأمن وزحف الشيطان. - ترى هل ما زالت النار مشتعلة؟!
مد الباشا ساقيه حتى طوقتا أرجل الخوان الأبنوسية فاشتد لمعان حذائه الأسود تحت سمت النجفة البلورية الرباعية الأذرع، وحانت من عيسى التفاتة إلى المدفأة المركبة في الجدار فأعجب بشفافية لهيبها الأحمر المتراقص وتذكر المجوس، ثم سرعان ما استملح الدفء الذي يهبه بجود، وجرت عيناه برشاقة على الأثاث الكلاسيكي المجلل بالوقار والفخامة وأحزان الوداع فتذكر مرثية أنطونيو فوق جثة قيصر، أما شكري باشا عبد الحليم فأجابه في كسل متعمد: آن للنار أن تنطفئ بعد أن أدت الخدمة المطلوبة!
فالتمعت عينا الشاب العسليتان المستديرتان، ثم قال مستدرجا محدثه إلى المزيد: لعله الغضب الأهوج.
ابتسم الباشا عن طاقم نضيد وقال: كان غضب، وكان وراء الغضب حقد، أما الغضب فأهوج حقا، وأما الحقد فذو خطة مرسومة. - وكيف يقع هذا ونحن في الحكم؟
صفحة غير معروفة