============================================================
قال : ولما سمع عين أهله ما خاطبته به العجوز، وفهم ما ضربت له من الأمثال اقبل على العجوز وقال لها : قد صدقت فيما نطقت وضربت لى مثلا كشف لى عن جلية أمرى(1)، وافدتى حكما لا كفاء لها، وأدبتى فتأنبت ، ووعظتى فاتعظت، ثم حدثها حدينه، ورغب اليها فى ان تمن عليه بالاصطناع وتطلقه كما فعل الخنزير بالفرس : فقالت له العجوز : إنك غر(1) لا بصيرة لك بالأمور، وان الذى سالتتى لا يكن فعله الآن ولعلسى أن أجد لك فرجا ومخرجا مصا أنت فيه، فعليك بالصبر، وأمسكت العجوز عن مخاطبته .
قال : فلما انتهى الوزير فى حديثه إلى هذه الغاية ، أقبل على المطران وقال له: إنى أحس فى نفسى فتورا، وفى رأسى صداعا ولا يمكن الليلة اتمام الحديث ولعلى ان اكون فى الليلة القابلة نشيطا إلى ذلك قيرا عليه ، فأكمل سرتك باكماله، ونهض الى مضجعه .
فجعل سابور يتصفح(1) حديث وزيره ، ويتأمل الأمثال التى وصفه بها ففهم اان الوزير كنى عنه بعين أهله؛ لأنه ملك فارس . وكنى عن مملكته وإقليم بابل بسيدة النار؛ لأن رعيته يعبون النار، وكنى عن بلاد الروم بسيدة الذهب ، ال وكنى عن طموح نفس سابور إلى رؤية مملكة الروم بطموح نفس عين أهله إلى سيدة الذهب، وكنى عن أخذ قيصر له بقبضة النتب على عن أهله، وقصد بما ضربه له من الأمثال الحكمية ؛ تاديبه على شرهه وتغريره بنفسه ومخالفة أصحابه، وكنى عن نفسه وحاله وعجزه وحزنه ونله فى خدمة المطران وطلبه مرضاته وتملقه بالعجوز القطعاء الجدعاء العوراء المشوهة الخلق، وعرفه أنه لا يمكنه تخليصه فى ذلك الوقت، وأنه ساع فى خلاصه، فسكنت نفس سابور لما فهم ذلك وعاويته تقته بوزيره واستروح ريح الفرج، ولبث بذلانى ليلته ووعدها الليلة القابلة .
(1) أى حقيقة أمرى.
(2) الغر : من لا خبرة له .
(2) يتأمل ويتتبر.
صفحة ٦٦