عاش محمد الثاني في جو ساد العالم فيه خشونة وقسوة، في وقت كله حماس ديني وتعصب في آسيا وأوروبا، فلقد دام النضال بين المسيحية والإسلام مدة طويلة زادت فيها الأحقاد وهبطت إلى أعماق النفوس فغذت روح البغض وحب التشفي والانتقام. ولذا ظهر في بعض تصرفات السلطان الفاتح بعض الشدة والعنف، وإن كان ذلك بخلاف والده الذي كان دائما رقيق الجانب مشهورا بالعطف والرحمة وحب العفو. وربما لم تكن هذه الشدة وذلك العنف في طبيعة السلطان محمد الثاني، فهو رجل قد سمت نفسيته وانصقل ذوقه واتسع أفقه، ولكن العصر - كما قلنا - كان عصرا قاسيا وغير رحيم.
فإذا كان قد ظهر أثناء فتوحات هذا السلطان بعض العنف، فربما كان وليد ذلك العصر الذي تحمس فيه المسلمون للجهاد والتوسع والفتح، وتحمس فيه المسيحيون لدينهم وناضلوا نضال المستميت للدفاع عن حرياتهم، واشتد ذلك الصراع والنضال بين الفريقين إلى درجة تلاشى معها العطف والعفو بين الفريقين.
حبا الله ذلك السلطان المواهب الممتازة والمقدرات العظيمة؛ فهو سياسي بعيد النظر يحسن انتهاز الفرص، وكرجل من رجال الحرب هو من الطراز الأول لا يدانيه أحد في عصره.
كان السلطان محمد الثاني يهتم اهتماما خاصا باختيار من يعاونونه في الإدارة والحكم، وهو لا ينظر في ذلك إلى الهوى الشخصي وإنما ينظر إلى المصلحة قبل كل شيء، وكان يرى بنفسه أن أوامره تنفذ بكل دقة.
ولم يكن ممتازا في الناحيتين الثقافية والعسكرية فحسب، فكانت كفايته الإدارية والقانونية عظيمة، فلقد أنشأ دولة عظيمة، وبنى ملكا كبيرا، وقضى على دولة كانت في يوم من الأيام لا تقهر، فلا بد إذن من وضع تنظيم جديد وإصدار قوانين جديدة تتناسب ودولته المجيدة، فمحمد الثاني هو الذي وطد دعائم الملك العثماني في داخل إمبراطوريته الكبيرة، فاكتسب للعثمانيين النصر الخارجي وقنن لهم القوانين، وعمل على استقرار الحالة الداخلية.
لقد ادعى مؤرخو عصر الفاتح من الأجانب أنه لم يكن كبير التعلق بالدين، وقالوا إن ذلك نتيجة طبيعية لثقافته الواسعة والظروف التي قامت فيها دولته، ويدللون على ذلك بتسامحه مع الكنيسة الإغريقية. وهذه الدعوى باطلة من أساسها؛ فالحوادث تظهره شديد التمسك بالدين، عظيم الإكرام لأهله، كريم الخلق، شديد التواضع لله، دائم الحمد له، وإذا كان قد أظهر التسامح مع الكنيسة الإغريقية فهذا لا ينقص من تدينه، ولا يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. ومن المعروف عن السلطان الفاتح أنه كان ينظر إلى الأمور بعين السياسي القدير المتسامح لا المتعصب الضيق الأفق، ومهما يكن من شيء فإن أعمال الفاتح وفتوحاته ومجهوداته كانت كلها في سبيل رفعة الإسلام والسمو بمركزه، ووفق في ذلك توفيقا نادر المثال، وكان أعظم أعماله القضاء على الدولة البيزنطية وفتح مدينة القسطنطينية.
تداعي الدولة البيزنطية
لقد كانت الإمبراطورية البيزنطية التي عرفها العثمانيون واحتكوا بها جزءا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية السابقة، كانت دولة قد سيطر البنادقة والجنويون على حياتها الاقتصادية، وكانت كثيرا ما تقع فريسة لعدوانهما وأطماعهما. وكثيرا ما وجدت نفسها حائرة بينهما، إذا صادقت فريقا اعتدى عليها الفريق الآخر.
عمرت الدولة البيزنطية أو الدولة الإغريقية نحو ألف عام، قاست في خلالها من المحن والأهوال ما لم تقاسه دولة أخرى، وداهمتها خطوب لو أنها داهمت دولة غيرها لقضت عليها قضاء مبرما، ومرت في أزمات داخلية وخارجية عظيمة، وأدت للمسيحية ولأوروبا المسيحية خدمات جليلة تكل تحت عبئها أعظم الدول وأقواها.
ولكن الدول كالأفراد تماما لها صباها ولها شبابها، ولها كهولتها وهرمها؛ ففي القرن الرابع عشر الميلادي أخذ الهرم والهزال والسقم يدب حقيقة في جسمها، فشلت قوتها، ونالها الاضمحلال فأوشكت على الانهيار، هذا في الوقت الذي كانت فيه نظم الأتراك العثمانيين تزداد كل يوم إحكاما وقوة، وتسعى للحياة والعظمة ثابتة متفوقة ...
صفحة غير معروفة