كان السلطان الفاتح يرغب في أن تستمر للكنيسة الأرثوذكسية قوتها ونظامها حتى يستطيع أن يسترضي الرعايا الأرثوذكس، وان يسجل لهم قبول الحكم الإسلامي الجديد. ولذا احتفظ السلطان بنظم الكنيسة العتيقة، وأبقى لها الكثير من سيطرتها القديمة، فطلب من القساوسة الأرثوذكس الاجتماع لينتخبوا من بينهم بطريركا، واعتمد من اختاروه وهو جناديوس، واحتفل بانتخابه على النظام وبالأبهة التي كانت متبعة في مثل هذه الاحتفالات في عهد الأباطرة المسيحيين، وقال له: «لتكن بطريركا على صداقتي في كل وقت وظرف، ولتتمتع بكل الحقوق والامتيازات التي كانت لمن سبقك.» ولكي يرفع من مركز البطريرك في الدولة الجديدة أهداه فرسا جميلا، وجعل له حرسا خاصا من الإنكشارية، وصحبه باشاوات الدولة إلى المكان الذي أعد له، ثم اعترف بقوانين الكنيسة الأرثوذكسية ووضعها تحت حمايته، وأمرها بإقامة حفلاتها الدينية كالمعتاد، وجمعت واشتريت كل آثار القديسين ومخلفاتهم التي نهبت، وسلمت إلى الكنائس والأديرة.
ولكن كان على الكنيسة الجديدة أن تخضع للسلطان كبقية النظم الأخرى الموجودة في الدولة، ففي أي لحظة يستطيع السلطان عزل البطريرك أو كبار رجال الدين، لا راد لقضائه، ولكن من الناحية العملية ما كان السلطان يلجأ إلى اضطهاد الكنيسة أو رجالها، بل كانوا دائما موضع حمايته أو إكرامه. وكانت فكرة الاضطهاد الديني غير موجودة في ذهن الفاتح، وإذن نعمت الكنيسة الأرثوذكسية في عهده وعهد خلفائه بهدوء واستقلال لم تنعم بمثله قبلا حتى في عهد كثير من الأباطرة البيزنطيين أنفسهم، وأخلص القسس الطاعة لذلك السيد العظيم.
قوي إذن مركز الكنيسة الإغريقية، ورضي الإغريق عن ذلك الحكم الجديد الذي ترك لهم حرية المعتقد ومنحهم استقلالا دينيا غير منقوص، ولقد أبقى الفاتح بعض الكنائس على حالها، ولم يمنع المسيحيين من إقامة شعائر دينهم فيها، وأصبح حي الفنار المطل على القرن الذهبي حلقة الاتصال بين القسطنطينية الإسلامية والقسطنطينية المسيحية.
وفي حي الفنار المظلم هذا وفي منازله القاتمة عاشت العائلات الإغريقية العظيمة مثل الكومني والباليولوجي والدوكا، عاشت كآثار أرستقراطية عظيمة عريقة، عاشت لا أراضي لها ولا جاه إلا الأصل المجيد الذي تنتمي إليه.
لقد أصبحت البطريركية الإغريقية في إستامبول موئلا للمسيحية ومراكز للقومية الإغريقية إلى أن حان الوقت لظهور الإغريق كأمة لها كيانها الخاص حين ضعفت الدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر.
وأما القسطنطينية فلقد أصبحت إستامبول في فم الأتراك، وأصبح هلال بيزنطة رمز القوة العثمانية، وعلما لعظمتها.
وأما من حيث إعادة الحياة والهدوء إلى هذه المدينة العظيمة فلقد أمر السلطان محمد الفاتح حين دخلها بوقف القتل، ولم يسمح باستباحتها بعد الأيام الثلاثة التي حددها والتي وعد بها جنوده، وكان قد قتل من سكان المدينة العدد الكثير، وشرد العدد الكثير، وأسر العدد الكثير، ولكن ما كان الفاتح يعمل على خراب المدينة العظيمة مطلقا، فهو رجل مقدر للجمال يتذوق الفن، وإنما كان عليه أن يعيد لها مركزها القديم وعظمتها السابقة بنشر الأمن والطمأنينة فيها وإنشاء حياتها الاجتماعية والاقتصادية من جديد؛ حتى تصبح صالحة لأن تكون عاصمة لأقوى دولة في أوروبا وآسيا معا. فأعاد إصلاح أسوارها، وبنى فيها حصنا منيعا له سبعة أبراج، وعمل على تشجيع من بقي من سكانها على الإقامة فيها والاستقرار، وطلب من كثير من العائلات التركية والإغريقية والألبانية سكناها، وعاد إليها عدد كبير من سكانها الذين كانوا هربوا منها، كما لجأ إليها عدد لا يستهان به من مهاجري الأرمن والفرس والعرب.
ولقد اهتم السلطان الفاتح بإنشاء المباني العظيمة في هذه المدينة، فبنيت فيها دار السعادة العتيقة بقرب الجامع الذي كان أنشأه السلطان بايزيد خان الأول، فكانت أول دار أنشأها السلاطين العثمانيون بعد فتح هذه المدينة، وكذلك أمر السلطان الفاتح ببناء جامعه المشهور باسمه، وهو واقع على التل الرابع في المدينة، بناه المهندس خرستو دولاس على أنقاض كنيسة سان أبوتر، وهذا الجامع يرى من البحر من مسافة بعيدة وله مئذنتان، وقد أصابته الزلازل فيما بعد، فأعاد بناءه السلطان مصطفى الثالث. ومن منشآت السلطان الأخرى جامع أبي أيوب الأنصاري، وجامع الشيخ البخاري بجانب باب أدرنة، وجامع الإنكشارية (أرطة جامعي). كما أنشأت السلطانة زوجته ستي خانوم جامعا في أدرنة، وكذا بنته السلطانة عائشة أنشأت جامعا في نفس هذه المدينة التي كانت تعتبر ثاني مدن الدولة العثمانية. وأمر السلطان ببناء ثماني مدارس حول جامعه الكبير، وشيد خلفها منازل للطلبة ومستشفى (دار الشفاء) وحمامات، وبقربها خانات لنزول المسافرين، كما أنشأ مدرسة للعلوم الشرعية، وبالجامع مكتبة هي الأولى من نوعها في إستامبول، وبقربها يوجد قبر عليمة هانم أم السلطان محمد الثاني، ويقول رامبرتي، الذي كتب في سنة 1734م: «بأن جامع السلطان له «إمارة» متصلة به يسمح لكل شخص بالنزول فيها حيث يستضاف ثلاثة أيام، فيعطى العسل والأرز واللحم والخبز وغرفة للنوم، وكان يهواها الآلاف من الناس، وبجانبها الحمامات والسبل الجميلة.»
وفي إستامبول ميدان سمي باسم الفاتح، وهو «فاتح ميداني» وآق ميدان، وهناك أيضا محلة تنسب إليه فيها جامع ومدرسة، ولها سوق خاصة شهيرة تعقد فيها، ويجد الناس فيها ما يحتاجون إليه بالأسعار المناسبة.
ومن المساجد التي أنشئت في العاصمة في عهده كتشوق أيا صوفيا على بحر مرمرة، وكانت في الأصل كنيسة القديس سرجيوس وباكوس، وجامع زيرق على القرن الذهبي، وكان كنيسة أيضا وحول جامعا وسمي على اسم ملا زيرق، وكذلك جامع محمد باشا وجامع مراد باشا سميا باسم وزيرين للسلطان الفاتح.
صفحة غير معروفة