فقالت نعيمة بقلق: ستزورينني كل يوم، كنت تتحاشين الاقتراب من السكرية، ولكن يجب أن تتخلي عن هذه العادة منذ اليوم. - طبعا، هل تشكين في ذلك؟
وإذا بكمال يقبل عليهما قائلا: استعدا، جاء المأذون ..
وعلقت عيناه بنعيمة في إعجاب. يا للجمال، والرقة، والشفافية! كيف يكون للحيوانية دور في هذا الكائن اللطيف؟!
ولما عرف أن الكتاب قد كتب، تبودلت التهاني، وإذا بزغرودة تقتحم على البيت وقاره وتلعلع في جوه الصامت، فاتجهت الرءوس في دهش إلى حيث وقفت أم حنفي في نهاية الصالة. ولما جاء وقت الوليمة وتوارد المدعوون إلى المائدة، انقبض صدر عائشة وتركز تفكيرها في الفراق الوشيك، فلم تنفتح نفسها للطعام. ثم جاءت أم حنفي فأبلغت أن الشيخ متولي عبد الصمد جالس على الأرض في الحوش، وأنه طلب عشاءه خاصة من اللحوم، فضحك السيد وأمر بأن تهيأ له صينية وتحمل إليه. وما لبث أن ترامى إليهم صوته صاعدا من الحوش وهو يدعو بطول العمر لحبيبه «ابن عبد الجواد» ويتساءل في الوقت نفسه عن أسماء أبنائه وأحفاده ليدعو لهم! فقال السيد باسما: يا للخسارة! .. نسي الشيخ متولي أسماءكم، سامح الله الشيخوخة ..
فقال إبراهيم شوكت: إنه في المائة من عمره، أليس كذلك؟
فأجاب أحمد عبد الجواد بالإيجاب، وعند ذاك تعالى صوت الشيخ مرة أخرى وهو يصيح: باسم الحسين الشهيد أكثروا من اللحم!
فضحك السيد قائلا: سر ولايته قاصر اليوم على اللحوم!
وحين ساعة الوداع سبق كمال إلى الحوش؛ ليتجنب ذلك المنظر، ومع أنه لم يزد على انتقال يسير إلى السكرية إلا أنه كان ذا وقع شديد كالصداع في قلبي الأم وابنتها. والواقع أن كمال كان ينظر إلى هذا الزواج بعين ملؤها الشك، بالنظر إلى جدارة نعيمة للحياة الزوجية. وفي الحوش رأى الشيخ متولي عبد الصمد جالسا على الأرض تحت المصباح الكهربائي المثبت في جدار البيت ليضيء المكان، مادا ساقيه، مرتديا جلبابا أبيض باهتا وطاقية بيضاء، خالعا نعليه مستندا إلى الجدار كالنائم ليريح جوفه مما امتلأ به من طعام - ورأى بين ساقيه ماء يسيل، فأدرك من النظرة الأولى أن الشيخ يبول وهو لا يشعر، وكانت أنفاسه تتردد فتسمع كالفحيح. حدجه كمال بنظرة جمعت بين التقزز والرثاء، ثم خطر له خاطر فابتسم على رغمه، وقال لنفسه: لعله كان طفلا مدللا عام 1830!
19
في اليوم التالي مباشرة ذهبت عائشة لزيارة السكرية. طوال الأعوام التسعة المنقضية لم تغادر البيت القديم إلا لزيارة القرافة، فيما عدا زيارات معدودات لقصر الشوق حين وفاة ابني ياسين الصغيرين. وقفت قليلا عند مدخل السكرية تلقي على المكان نظرة شاملة، حتى غطى الدمع ناظريها. على الأرض أمام مدخل البيت التي أشبعتها أقدام عثمان ومحمد جريا ولعبا، والحوش الذي ازدان يوما بحفل عرسها البهيج، والمنظرة التي كان يجلس فيها خليل يدخن غليونه ويلعب الطاولة والدومينو؛ ذلك شذا الماضي العطر المشبع بالحنان والحب المفقودين، وهي سعيدة، سعادة سارت مسير الأمثال، حتى قيل عنها: الضاحكة المترنمة التي لا شغل لها إلا مضاحكة المرآة ومصاحبة الزينة، والزوج يناجي والأطفال يثبون .. تلك الأيام الماضية. وجففت عينيها حتى لا تلقى العروس باكية. جففت عينين ما تزالان زرقاوين وإن تساقطت أهدابهما وذبلت جفونهما. ووجدت الشقة قد جددت مرافقها وطليت جدرانها فبدت ثغرا باسما في جهاز العروس الذي أنفق عليه بسخاء. واستقبلتها نعيمة في فستان أبيض هفهاف، وقد أرسلت شعرها الذهبي حتى مست أهدابه باطن الساقين، رائقة عذبة وضيئة ينبعث من أردانها عرف ساحر، فتعانقتا عناقا طويلا حارا، حتى قال عبد المنعم، وكان ينتظر دوره في السلام في روب جنزاري شمل به جلبابه الحريري: كفاية، أقل سلام يكفي هذا الفراق الوهمي!
صفحة غير معروفة