فغلبت روح الفكاهة على السيد فقال ضاحكا: مثله الآن كل عشرة بقرش!
واحتج وجه المرأة دون لسانها. وابتسم كمال بعطف وارتباك، واستأذن في الانصراف ثم غادر الحجرة. وفي الصالة اعترضت نعيمة سبيله لتريه فستانها الجديد، وذهبت لتجيء به، فجلس إلى جانب عائشة ينتظر. كان - كبقية أهل البيت - يجامل عائشة في شخص نعيمة، ولكنه إلى هذا كان معجبا بالفتاة الحسناء إعجابه بأمها قديما. وجاءت نعيمة بالفستان فبسطه على يديه وراح يتفحصه وهو يبدي الإعجاب، وكان يتأمل صاحبة الفستان بعطف وحب، مأخوذا بجمالها البديع الهادئ الذي اكتسى من صفائها ورقتها نورانية ذات بهاء. ومضى عن المكان بقلب لا يخلو من شجن، إن مصاحبة أسرة حتى شيخوختها لمما يحزن. ليس مما يهون أن يرى أباه في وهنه بعد سطوة وجبروت أو يرى ذبول أمه وتواريها وراء الكبر، أو يرى انحلال عائشة وتدهورها، هذا الجو المشحون بنذر التعاسة والنهاية. ورقي في السلم إلى الدور الأعلى - شقته كما يسميه - حيث يعيش منفردا بين حجرة نومه ومكتبته المطلتين على بين القصرين. وخلع ملابسه ومضى مرتديا جلبابه متلفعا بالروب إلى المكتبة، وكانت مكونة من مكتب كبير فيما يلي المشربية وصفين من خزانات الكتب على جانبيها. وكان يريد أن يقرأ فصلا على الأقل في كتاب «منبعا الدين والأخلاق» لبرجسون، وأن يراجع مراجعة أخيرة مقاله الشهري لمجلة «الفكر» الذي اتفق أن كان عن البراجمتزم. هذه السويعات الموهوبة للفلسفة، التي تمتد حتى منتصف الليل، هي أسعد أوقات يومه، وهي التي يشعر فيها - على حد تعبيره - بأنه إنسان، أما بقية اليوم الذي ينقضي في عمله كمدرس بمدرسة السلحدار الابتدائية أو في إشباع شتى مطالب الحياة الضرورية، فمداره الحيوان الكامن فيه، المستهدف أبدا تأمين ذاته وتحقيق شهواته. ولم يكن يحب عملة الرسمي ولا يحترمه، ولكنه لم يعلن سخطه، خاصة في بيته، أن يشمت به الشامتون، ومع ذلك فقد كان مدرسا ممتازا حائزا للتقدير، وكان الناظر يعهد إليه ببعض النشاط المدرسي، حتى رمى نفسه متفكها بالعبودية، أليس هو العبد ذي يتقن العمل الذي لا يحبه؟! والحق أن ولعه بالتفوق الذي اعتاده منذ الصغر هو الذي دفعه إلى الاجتهاد والامتياز دفعا لا هوادة فيه. وقد صمم من بادئ الأمر على أن يكون شخصية محترمة بين التلاميذ والمدرسين فكان له ما أراد، بل كان شخصية محترمة ومحبوبة معا، رغم رأسه وأنفه العظيمين .. ولا شك أنه كان لهما - رأسه وأنفه - أو كان لإحساسه الأليم بهما الفضل الأول في هذا التصميم القوي الذي خلق منه هذه الشخصية المهابة. كان يعلم بأن رأسه وأنفه سيثيران من حوله الفتن فاستل عزمه ليرد عنهما وعنه كيد العابثين. أجل لم ينج أحيانا من غمز وتعريض في أثناء الدرس أو في ملعب المدرسة، فكان يلقى الهجوم بحزم شديد، ثم يلطفه بعطفه المطبوع، إلى ما أثر عنه من مقدرة في الشرح والتفهيم، وما يأخذ فيه بين آونة وأخرى من موضوعات طريفة حماسية تمس القومية أو ذكريات الثورة، كل أولئك جعله يستميل إليه «الرأي العام» بين التلاميذ، وكان ذلك - إلى حزمه المتوثب عند الضرورة - كفيلا بالقضاء على الفتن في مهدها! ولشد ما آلمه أول الأمر الغمز الجارح، ولشد ما استثار المنسي من أحزانه، بيد أنه سر آخر الأمر بالمنزلة الرفيعة التي بات يحتلها في نفوس الصغار الذين كانوا يتطلعون إليه بإعجاب وحب وإجلال. وواجهته مشكلة أخرى تتعلق بمقالاته الشهرية في مجلة «الفكر» وكان يخاف هذه المرة الناظر والمدرسين أن يسألوه عما يعرض فيها من فلسفات قديمة وحديثة تنقد أحيانا العقائد والأخلاق بما لا يتفق ومسئولية «المدرس» ولكن من حسن الحظ أن أحدا من المسئولين لم يكن بين قراء «الفكر»، ثم تبين له بعد ذلك أن المجلة لا تطبع أكثر من ألف نسخة يصدر نصفها إلى البلاد العربية، فشجعه ذلك على الكتابة إليها وهو آمن على نفسه ووظيفته. في هذه السويعات القلائل ينقلب «مدرس اللغة الإنجليزية بالسلحدار الابتدائية» سائحا حرا يجوب أجواء لا تحد من الفكر، فيقرأ ويتأمل ويدون الملاحظات التي يجمعها بعد ذلك، في مقالاته الشهرية، تحثه على جهاده الرغبة في المعرفة وحب الحقيقة وروح المغامرة النظرية والحنين إلى العزاء والتخفيف من جو الكآبة الذي يغشاه والشعور بالوحدة الذي يستكن في أعماقه. قد يلوذ من الوحشة بوحدة الوجود عند سبينوزا، أو يتعزى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شوبنهور، أو يهون من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز في تفسير الشر، أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب من شاعرية برجسون، بيد أن جهاده المتواصل لم يجد في تقليم مخالب الحيرة التي تبلغ حد العذاب، فالحقيقة معشوق ليس دون المعشوق الآدمي دلالا وتمنعا ولعبا بالعقول وإثارة للشك والغيرة مع إغراء عنيف بالتملك والوصال، وهي كالمعشوق الآدمي عرضة لأن تكون ذات وجوه وأهواء وتقلبات، ولا تخلو في كثير من الأحايين من مكر وخداع وقسوة وكبرياء، وكان إذا ركبته الحيرة وأعياه الجهد يقول متعزيا: «قد أكون معذبا حقا ولكنني حي، إنسان حي، ولن تكون حياة الإنسان الخليقة بهذا الاسم بلا ثمن!»
2
مراجعة الدفاتر وضبط الحسابات وتسوية ميزانية اليوم السابق، كل ذلك كان أحمد عبد الجواد يؤديه على خير الوجوه وبالدقة المعهودة فيه من قديم غير أنه يؤديه اليوم بمشقة لم يكن يجدها من قبل أن يركبه العمر والمرض. وكان منظره وهو منكب على دفاتره تحت لافتة البسملة، وشاربه الفضي يكاد يختفي تحت أنفه الكبير الذي زاده ضمور الوجه ضخامة، كان ذلك المنظر مما يستحق العطف، غير أن منظر وكيله ومساعده جميل الحمزاوي الذي كان يهدف إلى السبعين كان مما يستحق الرثاء. ولم يكن يفرغ من زبون حتى يتهالك على مقعده، وهو يلهث، فكان أحمد يقول لنفسه في شيء من الامتعاض: «لو كنا موظفين لأغنانا المعاش في مثل سننا من الكد والعمل!» ورفع السيد رأسه عن الدفتر وهو يقول: ما زالت الحالة متأثرة بعض الشيء بالأزمة الاقتصادية ..
فارتسم الامتعاض على شفتي الحمزاوي الباهتتين وقال: بدون شك، غير أن هذا العام خير من العام السابق. والعام السابق خير من الذي قبله، الحمد لله على أي حال ..
عام 1930 وما تلاه من أعوام، تلك الفترة التي كان التجار من أصحابها يسمونها أيام الرعب، حين استبد إسماعيل صدقي بالحياة السياسية وسيطر القحط على الحياة الاقتصادية، وكانوا يصبحون ويمسون على أخبار الإفلاس والتصفيات، ويقبلون الأكف وهم يتساءلون عما يخبئ لهم الغد، وقد كان من المحظوظين بغير شك لأن ضيقته له تبلغ به الإفلاس الذي تهدده عاما بعد عام. - أجل، الحمد لله على أي حال ..
ووجد جميل الحمزاوي يرنو إليه بنظرة غريبة، فيها تردد وحرج، ماذا عنده يا ترى؟ وقام الرجل فقرب مقعده من المكتب ثم جلس وهو يبتسم في ارتباك. وكان البرد قاسيا رغم سطوع الشمس، وكان للهواء حملات قوية ارتجت لها الأبواب والنوافذ وتعالى الصفير. قال السيد وهو يعتدل في جلسته: هات ما عندك، إني موقن بأنك ستقول شيئا هاما.
فخفض الحمزاوي عينيه وقال: موقفي لا أحسد عليه، ولا أدري كيف أتكلم ..
فقال السيد مشجعا: ولكني عاشرتك أكثر مما عاشرت أهلي فتستطيع أن تفضي إلي بكل ما في نفسك .. - العشرة هي التي تصعب علي يا سي السيد .. - العشرة؟!
لم يخطر له هذا على بال .. - أتريد؟ .. حقا!
صفحة غير معروفة