فندت عن محمد عفت ضحكة رثاء وقال: فليرحم الله من يأمن إلى هذه الدنيا!
ثم دعا الفار إلى اللعب فتحداه محمد عفت، وسرعان ما التفوا جميعا حول النرد، وأحمد عبد الجواد يقول: ترى من يكون حظه كجليلة، ومن يكون كزبيدة!
6
في إحدى حجرات قهوة أحمد عبده، جلس كمال وإسماعيل لطيف. وهي نفس الحجرة التي كان كمال يجالس فيها فؤاد الحمزاوي في مطلع شبابه. وبالرغم من برودة ديسمبر كان جو القهوة دافئا. إذ إنه بإغلاق مدخلها يسد المنفذ الوحيد لها إلى سطح الأرض، فكان من الطبيعي أن تدفأ وإن انتشرت الرطوبة في جنباتها بدرجة محسوسة. ولم يكن إسماعيل لطيف ليرضى بالجلوس في قهوة أحمد عبده، لولا رغبته في مجاراة كمال. إنه الصديق القديم الذي لم تنقطع بكمال أسبابه، رغم أن مطالب الرزق دفعت به إلى طنطا خبيرا محاسبا مذ تخرج في مدرسة التجارة. فكان إذا عاد إلى القاهرة في إجازة اتصل به تليفونيا بمدرسة السلحدار، ونال منه موعدا للقاء في هذا الركن الأثري. وجعل كمال ينظر إلى صديقه القديم، كما بدا له بمنظره المدمج وملامحه المدببة الحادة، ويعجب لما آل إليه حاله من رزانة وأدب واستقامة، جعلته مثالا طيبا للزوج والأب، هذا الذي كان يوما مثالا فذا للقحة والاستهتار والفظاظة. وصب كمال الشاي الأخضر في قدح صاحبه ثم في قدحه وهو يقول باسما: يبدو أن قهوة أحمد عبده لا تعجبك؟
فارتفع رأس إسماعيل في تطاوله المعهود، وقال: إنها غريبة حقا، ولكن لماذا لا نختار مكانا فوق سطح الأرض؟! - على أي حال هي أنسب مكان للناس المستقيمين أمثالك.
فضحك إسماعيل وهو يهز رأسه في تسليم، كأنما يقر بأنه أصبح جديرا حقا بفضيلة الاستقامة، هو الذي كان وكان، وعند ذلك سأله كمال مجاملا: كيف الحال في طنطا؟ - عال، أما النهار فعمل متواصل في المصلحة، وأما الليل فأقضيه مع زوجي وأولادي. - وكيف حال الأنجال؟ - نحمده، إن راحتهم دائما على حساب تعبنا، ولكن نحمده في جميع الأحوال ...
فسأله كمال مدفوعا بحب الاستطلاع الذي يثيره في نفسه حديث الأسرة بصفة عامة: وهل وجدتهم حقا السعادة الحقيقية، كما يقول العارفون؟ - نعم، إنهم لكذلك. - رغم متاعبهم؟ - رغم كل شيء!
وجعل كمال ينظر إلى صاحبه بفضول أشد، هذا شخص جديد لا يكاد يمت بصلة إلى إسماعيل لطيف الذي زامله فيما بين عامي 1921 و1927، تلك الفترة الفذة من حياته التي عاشها بكل جوارحه، فلم تمض دقيقة من زمانها دون سرور عميق أو ألم شديد، فكانت عهد الصداقة الحقة متمثلة في حسين شداد، وعهد الحب الصادق متبلورا في عايدة، وعهد الحماسة العارمة مستمدة من شعلة الثورة المصرية الرائعة، ثم عهد التجارب العنيفة التي قذف بها الشك والمجون والأهواء، وقد كان إسماعيل لطيف هذا رمز العهد الأخير، ودليله الخطير، فأين هو اليوم من ذاك؟! وعاد إسماعيل لطيف يقول في شيء من التذمر: بيد أن هناك أمورا تشغل بالنا باستمرار، كالكادر الجديد ووقف الترقيات والعلاوات، وأنت تعلم أنني تعودت على الحياة الرغيدة في كنف أبي، ولكن أبي لم يترك ميراثا، ووالدتي بدورها تستهلك كل معاشها؛ لذلك رضيت في سبيل الرزق أن أعمل في طنطا. وهل كان مثلي يرضى بذلك؟!
فضحك كمال قائلا: مثلك ما كان يرضى بشيء!
فابتسم إسماعيل فيما يشبه الزهو اعتزازا بماضيه الحافل الذي هجره بمحض اختياره.
صفحة غير معروفة