وليس من العدل أن تقصر وزارة المعارف عن القيام بما عهد إليها، وتضعف الجامعة عن الوفاء بما أنشئت من أجله؛ فيقع إثم هذا كله على أستاذ فرد، قد عني بمادة معينة من مواد العلم، أعجبته وراقته، فتخصص فيها، وأراد أن ينشر منها في قومه ما وفق إلى نشره.
لست أزعم أن الجامعة ووزارة المعارف لو عنيتا بدرس تاريخ مصر لبلغتا به حد الكمال. ولكني أعتقد أن هذا التاريخ مجهول جهلا منكرا، وأنه ما ينبغي لبلد كمصر أن يصل من جهل نفسه إلى هذا الحد، على كثرة ما ينفق في تحصيل العلم من مال، وما يبذل فيه من جهد، وعلى جلال ما يسمو إليه من غاية، وما يحرص عليه من أمل في الاستقلال.
ولو أن الذين يقومون على نشر العلم في هذا البلد عرفوا كيف ينشرونه لما كنا من الضعف والتقصير، ومن الجهل والغفلة، بحيث لا نزال مضطرين - إذا أردنا أن ندرس تاريخ مصر - إلى أن نبعث الوفود إلى لندرا وباريس لدرس الآثار المصرية في مدارسهما ومتاحفهما.
أليس في مصر من آثار المصريين القدماء، ومن آثار العرب المسلمين، بل ومن آثار اليونان والرومان في مصر، ما يكفي لإنشاء مدرسة خاصة تقصر همها على درس هذه الآثار، وتخريج الأساتذة والأخصائيين الذين يعهد إليهم بالتعليم وحفظ الآثار وتنظيمها؟!
أوليس من المخجل أن توفد أوروبا وفودها إلى مصر لدرس الآثار، حتى إذا عادت هذه الوفود جلست مجالس الأساتذة في المدارس الأوروبية، وجلس المصريون منهم مجالس الطلب والاستفادة؟!
مثل الذين أنكروا على أني لم أقم بدرس التاريخ المصري، مثل القائمين بأمر التعليم في مصر يتركون ما يجب عليهم أن يعلموا، ويعنون بما يستطيعون أن يهملوا. ثم ينفقون الأموال في إرسال الطلاب ليحصلوا في أوروبا ما كان يمكنهم أن يحصلوه في مصر، أو ينالهم الإحجام فلا ينفقون. وتبقى الأمة جاهلة، لا يستطيع أشدها ذكاء وأنفذها بصيرة أن يتحدث إلى أوروبي في تاريخها! كل يسيء الفهم، وكل يضع الشيء في غير موضعه، وكل يلوم غير ملوم.
ولو أن هؤلاء المنكرين علي أنصفوا وتدبروا، لأخذوا عني راضين ما قدمت إليهم، ولأنحوا بلومهم وتأنيبهم على الذين يستطيعون العمل، فلا يعملون، ويقدرون على الخير ثم يقصرون عن طلبه، أو السعي إليه.
وبعد فما كان لأمة أن تعرض عن فن من فنون العلم لأنها لم تعلم غيره. إذن لقضي عليها بالجهل الدائم والغفلة المتصلة.
فليس من الميسور أن ندرس فنون العلم كلها في يوم واحد، ولا بد من أن يبدأ بدرس بعضها، وأن يتريث ببعضها الآخر.
فخليق بالناس أن يأخذوا ما قدم إليهم ويتعجلوا تحقيق ما أخر عنهم؛ فإن إعراضهم عن تحصيل ما يمكن تحصيله لا يعقبهم إلا فوات نفع محقق من غير أن يجدي عليهم الفوز بما يأملون.
صفحة غير معروفة