اشتد كلف الجمهور بهذا الفن وبلغ من الشدة أن اعترفت به الحكومة السياسية، فأصبح التمثيل المحزن من الحفلات التي تقيمها الحكومة في عيد ديونزوس إكراما له وإجلالا.
ويقال إن من أهم الأسباب التي حملت الحكومة الأثينية على أن تعترف بالتمثيل وتضيفه إلى البرنامج القانوني لعيد ديونزوس أن بزستراتيدس الطاغية بعد أن عاد من النفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة أراد أن يكسب قلوب الشعب ويلهيه عما فقد من حرية سياسية، فأهدى إليه فن التمثيل وقرر أن يتسابق فيه الشعراء قبل أن يئون أوان العيد.
وأحسب أن في هذا شيئا من المبالغة والإسراف؛ فإن درس تاريخ أثينا يعلمنا أن الحكومة الأثينية ما كانت ترى الشعب يكلف بشيء من الأشياء كلفا عاما إلا اعترفت به واتخذته لنفسها قانونا؛ فإن الحكومة الأثينية على اختلاف أشكالها السياسية كانت شديدة الميل إلى النظام الديمقراطي وما يستتبع من الاعتراف بميول الشعب وأهوائه والإسراع إلى تحقيقها في كثير من الأحيان. ومهما يكن من شيء فقد كان اعتراف بزستراتيدس بالتمثيل مصدرا لحياته الحقيقية وحاميا له من التشتت والضياع، وحاملا إياه على أن ينمو ويستحيل في هدوء ونظام حتى يبلغ أشده.
ليس من الميسور أن نعرف كيف استحال التمثيل منذ اعترفت به الحكومة إلى نحو سنة ثمانين وأربعمائة قبل المسيح. ولكنا نعرف أنه قد ارتقى في هذا الأمد القصير رقيا ظاهرا. فعدلت الجوقة عن أن ترتدي جلد المعز لتمثل رفاق ديونزوس. ومعنى هذا أن التراجيديا قد تجاوزت حياة ديونزوس إلى غيرها من الموضوعات، وأصبحت قادرة على أن تمثل كل شيء من حياة الآلهة والأبطال. بل هي لم تكتف بهذا، فتناولت الموضوعات المعاصرة، وحاولت تمثيل الحياة اليونانية، أو على أقل تقدير ما يقع في هذه الحياة من الأحداث ذات الخطر. فمثل فرنكوس الشاعر سنة خمس وتسعين وأربعمائة أمام الشعب الأثيني سقوط مدينة ميليه في يد الفرس فأبكاه وأحزنه، وساء أثر هذه القصة في نفس الأثينيين فعاقبوا الشاعر الممثل؛ لأنه لعب بين يدي الشعب ما يسوءه ويحزنه، ومثل سنة خمس وسبعين وأربعمائة قصة الفينيقيين أظهر فيها ظفر أثينا على الفرس.
كانت هذه الاستحالة التي أشرنا إليها خطوة خرج بها التمثيل من طفولته إلى شبابه، وفارق بها سذاجته الأولى، فأصبح غير مقصور على القيام بما كان يقوم به من واجب ديني يقصد به إلى تعظيم الآلهة والأبطال وتسلية الجمهور، بل سما إلى غاية أخرى أشد من هذه الغاية دقة وأجل خطرا وأبعد منالا، هي تمثيل الحياة الإنسانية وما يبعث العمل فيها من عواطف مختلفة وميول متباينة وأهواء متناقضة.
فلم يكن الشاعر الممثل حين يضع قصة من القصص يقصد إلى سرد حوادث ملأت حياة بطل أو إله، ولا إلى أن يسمع الجمهور ما يتلوه الممثل أو تتغنى به الجوقة من شعر جميل النظم حسن الموقع وإنما كان يقصد إلى أن تكون قصته مرآة ناصعة تظهر فيها صورة من صور الحياة القديمة أو الحديثة وما عمل في تكوين هذه الصورة من عاطفة أو هوى. وكان يريد أن يرى الجمهور نفسه على مسرح التمثيل، فيشعر بما يزينه من فضيلة أو يشينه من عيب، وكان إلى هذا وذاك يريد أن يبعث في نفس النظارة من العواطف ما تقوم عليه الحياة الاجتماعية والسياسية من ثقة تحمل على الإقدام والجرأة والشغف بجلائل الأعمال، أو رحمة تدعو إلى البر والإشفاق والأخذ بيد الضعفاء والبائسين، وكان فوق هذا كله يحرص على أن يمثل للجمهور الجمال في أبدع مظاهره وأبهجها حتى لا ينحط ولا يفسد، والقضاء في أشد ما يكون قسوة على الإنسان وعبثا به حتى لا يغتر ولا يطغى، إلى غير ذلك مما ستراه واضحا جليا فيما سنترجم أو نلخص في هذا الكتاب.
9
هذا الرقي المعنوي الذي رقاه التمثيل في أمد قصير متأثرا بما أصاب الحياة الأثينية من استحالة سياسية أو اجتماعية استلزم رقيا ماديا لم يكن منه بد. فبعد أن كان الممثل فردا واحدا يمثل بطلا أو إلها لا يتكلف في تمثيله إياه إلا الشيء القليل من تلوين الوجه والإضافة إلى الزي، أصبح في عصر أيسكولوس شخصين، ولم يكن بد من اتخاذ الأزياء الخاصة لكل قصة، ومن اتخاذ النقب التي تمثل الوجوه المختلفة. فأما تعدد الأشخاص فقد استلزم تنويعا في المحاورة قرب القصة إلى الحقيقة ودانى بينها وبين الواقع ونقل المنفعة من حوار الجوقة والممثل إلى حوار الممثلين، فأصبح مكان الجوقة مكانا إضافيا يزيد في جمال القصة وروائها من غير أن تكون رهينة به أو موقوفة عليه. ونحن مدينون لهذا التعدد بأجمل ما اشتملت عليه القصص التمثيلية من حوار. وأما اتخاذ النقب وتغيير الزي فيدلان على أن الممثلين قد أصبحوا محققين أكثر منهم مخيلين؛ أي إنهم كانوا يحاولون أن يخلبوا الجمهور ما استطاعوا أو يحملوه على أن يعتقد أنه إنما يرى شيئا واقعا محققا لا متوهما ولا مخيلا، وذلك بالعدول عن الإسراف في الخيال من جهة والاستعانة بالآلات المادية من جهة أخرى.
وبعد أن كان التمثيل بدويا ينتقل من مكان إلى مكان ويطوف أنحاء أتيكا في المواسم والأعياد أصبح حضريا مستقرا فأقيمت له الملاعب ونظمت حفلاته تنظيما لا بد من الإلمام به.
10
صفحة غير معروفة