على أن هذه الحياة لم تخل من سحابة هم غشيتها فنغصت صفوها بعض التنغيص، وعملت في تكوين الرجل وتكميل خلقه. فمثل الحياة تملؤها اللذة لا يشوبها ألم، والفرح لا يعترضه حزن مثل الطعام لا ملح فيه، تعافه النفس وتنفر منه.
لم يكتف سوفوكليس بالحياة المنزلية المشروعة، فمع أنه كان زوجا ناصحا وأبا شفيقا، كلف بامرأة من «سيكيون» وعاشرها فكان له منها ابن سماه «أرستون» وكان لأرستون هذا ابن هو سوفوكليس الشاب، مثل قصة لجده بعد موته.
بين هذا الولد غير المشروع وإخوته، كانت خطوب وإحن تألم لها الشاعر، ويقال إنها وقفته بين أيدي القضاة، ومهما يكن من شيء فإن ما امتلأت به حياة سوفوكليس من لذة وألم، ومن خير وشر، لم تشغله عن فنه ولم تمنعه من إتقانه والإجادة فيه، فيروي المؤرخون أنه كان يقدم إلى المسابقة أربع قصص في كل سنتين. بدأ في ذلك قبل أن يتجاوز الثامنة والعشرين فانتصر على أيسكولوس سنة ثمان وستين وأربعمائة، ويقول الرواة إنه انتصر عشرين مرة؛ أي إن ثمانين قصة من قصصه قد راقت الجمهور. ويقولون إنه لم ينهزم قط فكان إما سابقا أو لاحقا، فأما الصف الثالث فلم يعرف مرارة الانحطاط إليه. ظل كذلك لا يبطره الانتصاره ولا توئسه الهزيمة ولا تناله الغيرة إذا تفوق عليه أحد من خصومه إلى أن مات سنة خمس وأربعمائة من غير أن يفارق وطنه إلا جادا في خدمته؛ فقد طلب إليه كثير من طغاة المدن اليونانية أن يرحل إليه فأبى ذلك لأنه كان يحب أثينا، ولأن أثينا كانت تحبه. فأما حبه إياها فكل ما قدمناه يدل عليه دلالة واضحة، وأما حبها إياه فحسبك دليلا عليه أنه لم يكد يفارق هوى الحياة حتى اتخذت له المدينة معبدا وعبدته، وقدمت إليه الضحايا والقربان في كل سنة، كما كان يفعل اليونان بأبطالهم.
فلننظر الآن إلى آثاره الأدبية لنرى ما بينها وبين هذه الحياة من صلة.
2
كان التمثيل قد بلغ من الرقي درجة عظيمة كما قدمنا قبل أن يحاوله سوفوكليس؛ فقد رأينا كيف نشأ وكيف منحه «تسبيس» صورته الأولى، وكيف أكمل أيسكولوس هذه الصورة، ورأينا معظم ما اخترع أيسكولوس في التراجيديا من اختراعات مادية أو معنوية وصلت بها من الرقي إلى حيث نراها فيما ترجمنا ولخصنا من آثار هذا الشاعر. إذن فقد وجد سوفوكليس أمامه طريقا ممهدا وخططا مرسومة لم يكن له أن يتجاوزها أو يعدل عنها، فلم ينفق من نبوغه شيئا كثيرا في هذه المعدات التي ليس منها بد ليوجد فن من الفنون، والتي تحرم صاحبها في كثير من الأحيان لذة الاستمتاع بآثاره والشعور بأن الناس يضيفون إليه ما اشتملت عليه من جمال. فمهما أتقن البناء ووضع الأساس وأقام الدعائم لقصر ضخم بديع؛ فإن إعجاب الجمهور منصرف عنه إلى هذا الذي أتم بناءه ومنحه من الزينة والتحسين ما يملأ النفوس بهجة والقلوب روعة.
لم ينفق سوفوكليس شيئا من نبوغه في وضع أساس التمثيل وإقامة دعائمه، وإنما أنفقه كله في ترقيته وتحسينه، وسلك به طريق الاستحالة والانتقال من طور إلى طور، ومع هذا فقد أبى مؤرخوه إلا أن يضيفوا إليه اختراعات أساسية لا شك في أن حظ الإسراف منها كثير.
فقد زعموا أنه أول من عدل عن الرباعية المتصلة، فقدم إلى المسابقة رباعية منفصلة، وفي الحق أنا لا نعرف لسوفوكليس رباعية متصلة كما نعرف لأيسكولوس، ولكن مما لا شك فيه أنه ليس مبتدع الرباعية المنفصلة؛ فقد سبقه إليها أيسكولوس كما قدمنا، وإنما رأى سوفوكليس أمامه طريقين من طرق التمثيل، طريق الوصل بين القصص والفصل بينها فآثر أن يسلك أيسرهما وهي الثانية، وأحسن كل الإحسان لأنه حرر الفن من قيود كانت تقف الشاعر مواقف لا تخلو من حرج كثير.
وزعموا أنه أول من جعل عدد الممثلين ثلاثة، وكان أيسكولوس قد جعله اثنين، ولا شك في أن هذا أيضا متكلف مبالغ فيه؛ فقد رأينا أن أيسكولوس قد قسم غير قصة بين ثلاثة من الممثلين، وإنما عدل سوفوكليس كل العدول عن القصة الثنائية التي لا يلعبها إلا اثنان. وكان أيسكولوس يشعر بشيء من الضيق والوحشة في تقسيم قصته بين الممثلين الثلاثة، أما سوفوكليس فقد أحسن الانتفاع بهذه البدعة واستخدمها في ترقية الحوار ووضع أشخاص القصة مواضع ثابتة رحبة ليست بالضيقة ولا بالمضطربة، فاستطاع كل شخص من أشخاص القصة أن يحسن الإعراب عما في نفسه، وأن يجلي أخلاق البطل واضحة لا يشوبها الغموض ولا يحول بينها وبين الوضوح الشديد ضيق المقام.
وزعموا وربما كان هذا حقا أنه زاد عدد الجوقة، فجعل أعضاءها خمسة عشر وقد كانوا اثني عشر. وأنه مع ذلك قد جعل خطرها في التراجيديا غير جليل فأصبحت التراجيديا أقرب إلى التمثيل منها إلى الغناء. ولكنا قد قدمنا أن طبيعة الفن كانت تستلزم هذه الاستحالة، وأن عمل الجوقة أخذ يقل ويتضاءل شيئا فشيئا منذ أيام تسبيس، ورأينا هذه الاستحالة ظاهرة في قصص أيسكولوس؛ فالمستجيرات وهي أقدم ما بقي لنا من آثاره توشك ألا تكون إلا غناء، والفرس وهي أحدث منها يعظم فيها حظ الغناء ولكن حظ التمثيل فيها غير قليل، ثم ما يزال التمثيل ينمو والغناء يتضاءل، حتى إذا نشأ سوفوكليس وجد هذا القانون قد أصبح لا سبيل إلى تغييره فأحسن الأخذ به والاستفادة منه كما سنرى.
صفحة غير معروفة