5
وعلى الرغم من أن كثيرا من العلماء وصفوا الصوفيين القبليين بأنهم «غير متبعين للعقيدة القويمة» أو «مبتدعون»، فإنه في الحقيقة لم توجد في زمنهم عقيدة قويمة ذات سلطة مركزية يمكن مقارنتهم بها. وكما سنرى لاحقا في هذا الفصل، فإن هذه «العقائد القويمة» (التي تغيرت مقوماتها في كل دولة إمبراطورية) لم تظهر إلا كنتيجة فرعية لمركزية إمبراطوريات أوائل العصر الحديث، التي أعقبت الحقبة القبلية الأكثر تقلبا في القرن الخامس عشر.
عانى مؤسسو الدول الجديدة القبليون، من البلقان إلى الهند في الفترة بين منتصف القرن الخامس عشر ومنتصف القرن السادس عشر، من أجل تحويل أنفسهم من غزاة إلى حكام. وتضمن هذا التحول أيضا تغيرا في أشكال الإسلام التي دعموها؛ لأنهم لم يصبحوا مسئولين عن مصائر أتباعهم القبليين فحسب، بل أصبحوا مسئولين أيضا عن السكان الذين يحكمونهم، الذين يتسمون بتركيبة أكثر تعقيدا وتنوعا؛ فقد كان لزاما أن تجري النخب الحاكمة في الإمبراطورية الصفوية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية المغولية؛ هذا التحول، وكان للأساليب المختلفة التي حققوا بها هذا التحول عواقب مهمة على مصائر الصوفية في بلادهم . إن بيئة السهوب والجبال التي تتسم بالترحال، والتمرد، واللاسلطوية الدينية، وكثرة القبائل الطموحة، والتعاقب السريع للكيانات السياسية المستقرة؛ هي ما أسفر عن كل من الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية. لقد كانت بيئة اضطر حكامها الجدد في نهاية المطاف إلى مواجهة أشكالها الدينية في إطار محاولاتهم السيطرة على الأراضي الجامحة التي نشئوا منها. وعلى الرغم من أن حالة المغول أكثر تعقيدا؛ لأنهم عندما صعدوا إلى السلطة انطلقوا من السهوب ذات الطبيعة المترحلة إلى مجتمع الهند الزراعي المستقر، فإنهم عندما حكموا منطقة الهند ذات الطبيعة التعددية إلى حد كبير، واجهوا أيضا مشكلة كيفية الانفصال عن ولائهم القديم في السهوب للطريقة النقشبندية. (3) منطقة البحر المتوسط: الإمبراطورية العثمانية المبكرة
لكي نرى كيف حدث هذا التحول المضطرب من دعم الصوفيين «القبليين» إلى دعم الصوفيين «المستقرين»، ينبغي أن نلتفت أولا إلى الحالة العثمانية؛ ففي الفترة ما بين القرن الرابع عشر والقرن السادس عشر، تضمن تطور الدولة العثمانية من زعامة قبلية قليلة الشأن إلى إمبراطورية بيروقراطية معقدة تربط جنوب أوروبا بالأناضول ومصر وفي نهاية المطاف شبه الجزيرة العربية؛ تحولا مضطربا عن أنواع الولاء الديني القبلي والمستقر. وكما رأينا في الفصول السابقة، فإن البعد التعليمي والبعد الأدبي للصوفية تطورا بارتباط وثيق بدراسة القرآن وتطبيق الشريعة الإسلامية. وقد اعتبر الحكام العثمانيون - مثل الحكام السلاجقة والأيوبيين والمماليك السابقين عليهم - النسيج المؤسسي للطرق الصوفية في المدن عاملا مهما في الحفاظ على النظام الاجتماعي.
6
ونتيجة لذلك، شهد التوسع العثماني إعادة تأكيد على دور الطرق الصوفية المتعلمة والمسالمة في الحياة الحضرية، سواء أكان ذلك من خلال دعم الطرق الموجودة قبلهم، أم من خلال تقديم طرق أو طرق فرعية جديدة تتمتع بعلاقات وثيقة على نحو كبير مع العثمانيين أنفسهم. وتعد الطريقة الخلوتية مثالا على الطريقة المتفقة مع الشريعة، التي لا يربطها بالأناضول إلا أقل القليل.
7
فكونت الطريقة الخلوتية علاقات وثيقة مع كل من السلاطين العثمانيين وكبار مسئوليهم؛ مما أدى إلى تأسيس مقر كبير للطريقة عام 1574 في قلب إسطنبول على يد الصدر الأعظم صقللي محمد باشا .
8
بالإضافة إلى ذلك، دعمت الإمبراطورية الجديدة توسع طريقة الرومي المولوية ذات «الدراويش الدوارة»، التي أصبحت الطريقة المفضلة لدى البيروقراطيين العثمانيين. وهذا بدوره جعل تنظيم الطريقة المولوية متمركزا بمزيد من الفاعلية حول مجمع الضريح المشيد حول قبر الرومي في قونية. بطبيعة الحال، لم تحدث رعاية الطرق المفضلة هذه في خواء اجتماعي، وشهد تزايد تأثير هذه الطرق المفضلة تضاؤلا مصاحبا في تأثير الطرق التي فضلها الحكام السابقون على العثمانيين؛ فقد شهد استيلاء العثمانيين على سوريا ومصر من أيدي المماليك فيما بين عامي 1516 و1517، على سبيل المثال، الاستبدال التدريجي للصوفيين البارزين المرتبطين بالمماليك لتحل محلهم طريقة صوفية جديدة أكثر ارتباطا بالنظام الجديد.
صفحة غير معروفة