في حالات أخرى، أدى القرب الشديد بين المسلمين والمسيحيين والهندوس إلى تطوير أشكال «توفيقية» للطقوس والكلام، مكنت غير المسلمين من المشاركة في تبجيل الأولياء دون الدخول رسميا في الإسلام.
102
فعندما انتقلت الأناضول من حكم البيزنطيين إلى حكم السلاجقة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كانت المساكن الصوفية ساحات للتأمل لكل من المجتمعات المسيحية الأقدم والبدو التركمان الوافدين حديثا.
103
وفي الأماكن المرتبطة بمناطق أخرى عن طريق طرق التجارة المكتظة، نجد عادة أن التعبير عن هذه التوفيقية والمحلية يحدث دون إغفال ارتباطات الأولياء بممارسات الإسلام الأوسع نطاقا. أما في المناطق الأكثر بعدا أو غير المتصلة بغيرها على نحو جيد، فكان شائعا أن نجد مستويات هائلة من الاختلاف عن الأعراف الإسلامية السائدة، ومع انتشار الصوفيين في هذه المناطق الريفية فقدوا في بعض الأحيان هم أو أتباعهم التزامهم الصوفي السابق بالشريعة والقرآن والحديث. وفي بعض الحالات، كما في حالة تبجيل الشيخ عدي بن مسافر من قبل اليزيديين في جبال كردستان، فإن إضفاء الطابع المحلي المنفصل عن الإسلام جعل تبجيل أضرحة الصوفيين يعزز تدريجيا تكوين أديان جديدة مستقلة.
104
على الرغم من ذلك، في أغلب الأحيان كانت نتيجة تحول الصوفيين إلى أولياء، الذين أصبح وجودهم دائما في مجتمعاتهم المضيفة من خلال بناء الأضرحة، أن أصبحوا يمثلون وسيلة لعدد لا يحصى من الأشخاص العاديين للتعبير عن تبجيلهم لله وطلب خدمات من أوليائه. في النهاية، كان التبجيل وطلب الخدمات وجهين لعملة واحدة؛ فمن خلال توفير الصوفيين كأولياء سبيلا لصنع المعجزات، حققوا أهدافا عملية للغاية. وبينما توسل الأمراء إليهم من أجل الانتصار في المعارك، توسل الفلاحون من أجل عودة المياه إلى الآبار. ومع اكتساب معتقد الولاية القديم زخما مؤسسيا، بداية من القرن الحادي عشر فصاعدا، أدت نتائجه العملية إلى نيل الصوفيين استحسانا واسع النطاق على كل مستويات الطبقات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن مكانة الأولياء الصوفيين سوف تتغير بالتأكيد في القرون التالية (بصفة خاصة في فترة العصر الحديث التي سنتناولها في الفصل الرابع)، فمن المهم أن ندرك أن تبجيل الأولياء الصوفيين ما زال يشكل أساس الحياة الدينية لملايين كثيرة من المسلمين حتى يومنا الحاضر. (5) إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية
تناولنا في هذا الفصل حتى الآن عمليتين تمكن من خلالهما الصوفيون في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر من رفع مكانتهم وزيادة أتباعهم على نحو هائل؛ من خلال التأسيس المفاهيمي والتنظيمي للطرق، وتحولهم لأشخاص محل تبجيل بصفتهم أولياء. وانعكاسا للنطاق الجغرافي والاجتماعي الشاسع الذي كان يعمل فيه الصوفيون في ذلك الوقت، شهدت فترة العصور الوسطى أيضا تطورا مهما ثالثا تمثل في تزايد إضفاء الطابع المحلي على الأفكار الصوفية، فاصطبغت بلغات المناطق الكثيرة التي كان الصوفيون قد دخلوها في تلك الفترة. وبلا استثناء تقريبا، كتب كل المنظرين الصوفيين المؤسسين - الذين تحدثنا عنهم في الفصل الأول، سواء أكانوا في العراق أم في خراسان - أعمالا باللغة العربية. وحتى إذا نحينا جانبا قيود الأمية، فإننا يجب أن نتذكر أن التحدث باللغة العربية كان مقتصرا على المناطق الموجودة جنوب العراق، وحتى في هذه المناطق تنافست العربية خارج المدن مع لغات أخرى تراوحت ما بين الكردية والتركية والأمازيجية. وبالاتجاه إلى أقصى الشرق، كانت اللغة العربية لغة المتعلمين فحسب، وكانت الغالبية العظمى من المسلمين تتحدث لغات كانت مختلفة في بنيتها عن العربية قدر اختلاف الإنجليزية عنها، على الرغم من اقتراضها لقدر كبير من مصطلحاتها من اللغة العربية وحروفها من الأبجدية العربية (عندما بدأت في النهاية تستخدم في الكتابة). ومن الواضح أنه من أجل أن تتطور الصوفية لتصبح شيئا أكبر من مجرد إسلام النخبة، كان لزاما أن تحرز تقدما في عوالم اللغات المحلية التي كان يعيش ويفكر فيها الغالبية العظمى من المسلمين شرق العراق ، خاصة في جنوب وجنوب شرق آسيا. وعبر عملية الترجمة هذه للتعاليم الصوفية إلى نطاق من اللغات التي تتحدثها مجتمعات المسلمين الجدد، انتقلت مجموعة من المصطلحات الدينية، إما باللغة العربية الأصلية وإما بتعديل في اللغة العربية يتفق مع علم الأصوات الخاص باللغة المحلية؛ ومن ثم تكونت «مصطلحات إسلامية معيارية عبر إقليمية في مجتمعات المسلمين في جنوب وجنوب شرق آسيا.»
105
وبالإضافة إلى المصطلحات القرآنية الأساسية الخاصة بالصلاة والألوهية، فقد تكونت المصطلحات المعيارية هذه إلى حد كبير من كلمات مأخوذة من المعجم الصوفي العربي الذي شهدنا تكونه في الفصل الأول.
صفحة غير معروفة