113
كان قاضي زاده محمد (المتوفى عام 1635)، مؤسس حركة قاضي زاده الذي سميت الحركة على اسمه، ابنا لقاض بسيط في إحدى المقاطعات جاء إلى إسطنبول بحثا عن وظيفة في البيروقراطية الدينية الإمبراطورية المعروفة باسم «العلمية»، وعلى الرغم من أن قاضي زاده محمد حاول الارتباط بالطريقة الخلوتية صاحبة العلاقات القوية، فإنه لاحقا حمل الصوفيين مسئولية إضلال سكان الدولة وإبعادهم عن السنة النبوية، وبعد أن تدرج في هرمية الوعظ الرسمية، وأصبح «واعظا» (وهي إحدى المراتب الدنيا في «العلمية»)، استخدم تأثيره كواعظ في أكبر مساجد إسطنبول لنشر رؤيته عن العصر المنحط أخلاقيا، الذي يحتاج إلى «تجديد الإيمان»، وكان نطاق انتقاده واسعا؛ إذ لم يقتصر على معتقد وحدة الوجود، بل امتد ليشمل الحفلات الموسيقية الصوفية، والطقوس الشائعة المتعلقة بتبجيل الأولياء الصوفيين، ومجموعة من الأنشطة المنحطة (مثل: تدخين التبغ، وشرب الخمر أو القهوة) التي اعتبر الصوفيين المنحلين أخلاقيا مسئولين عنها. وكما أشرنا بالفعل، فقد كانت فكرة «البدع» هي الأداة النقدية الأساسية التي استخدمها لتقديم تقليد الصوفيين باعتباره انحرافا عن الإيمان الحقيقي. ونظرا لأنه كان خطيبا مشعلا للحماسة، فقد أثار قدرا كافيا من الغضب الديني في نفوس مستمعيه، لدرجة أن الجماعة التي كان ملهمها أصبحت فعليا ميالة إلى الاقتصاص الأخلاقي؛ مما أدى إلى تخريب الممتلكات الصوفية، وضرب الصوفيين أنفسهم، وقتلهم في بعض الأحيان أثناء عشرينيات وثلاثينيات القرن السابع عشر (وبين الحين والآخر على مدار نصف القرن التالي). وبطبيعة الحال، رد الصوفيون ودافعوا عن الممارسات التي أدانتها تلك الجماعة، إلا أنه لا يمكن إخفاء حقيقة أنه بعد قرون من تزايد النفوذ الصوفي في كل من المجتمع والدولة، نشأت جماعة اجتماعية جديدة أو حتى حزب اجتماعي جديد، استخدم تهمة البدعة ونفوذ الشريعة ليمكن أعضاءه من معارضة سلطة الصوفيين، الذين كانوا في كثير من الحالات أعضاء مميزين في الطبقة الحاكمة العثمانية.
114
شكل 3-5: «دراويش المولوية»: طقوس موسيقية لورثة الرومي في الإمبراطورية العثمانية (الصورة من مجموعة الصور الخاصة بالمؤلف).
الأمر المثير في جماعة قاضي زاده هو الطريقة التي أظهرت بها الانقسامات داخل البيروقراطية الدينية في الإمبراطورية العثمانية، وكذلك الأساليب التي استخدمت بها أشكال معينة من الإسلام كوسائل لتحقيق مصالح جماعات معينة. فكما رأينا، كان كثير من كبار مسئولي الدولة والعلماء منتسبين لطرق صوفية. علاوة على ذلك، كانت النخبة الحاكمة ترى أن مهمة البيروقراطية الدينية ليست فرض الإسلام فرضا صارما، بل الحفاظ على النظام الاجتماعي من خلال التفسير العملي وليس الحرفي للشريعة الإسلامية. وقد كان يرى في البداية أن جماعة قاضي زاده لا تحافظ على الإطلاق على التناغم الاجتماعي، بل كانت تعكر صفوه، لكن مع مرور الوقت أدى ازدياد أتباعها إلى أن أصبح أعضاؤها لاعبين سياسيين مهمين، وحاول بعض كبار المسئولين استخدامهم لخدمة أهدافهم الخاصة. ولم يكن الصراع بين أتباع تلك الجماعة والصوفيين صراعا عقائديا فقط حول ما يمثل السنة المحمدية الحقيقية، بل كان أيضا صراعا على فرص التوظيف؛ فقد كان الصوفيون في العموم يعملون في كثير من الوظائف السهلة المريحة للغاية في النظام العثماني؛ فمثلا: على النقيض من أصحاب المراكز الأقل من الوعاظ والقضاة، الذين كانوا يحتفظون بوظائفهم عن طريق نظام يشبه العقد القصير الأجل الحديث، كان شيوخ المساكن الصوفية يعينون عادة في وظائف يستمرون فيها طوال حياتهم، وتظهر الإحصائيات أن فترة ازدهار جماعة قاضي زاده ما بين عام 1621 وعام 1685، كان يمنح فيها ما يقرب من نصف وظائف الوعاظ إلى أعضاء الطرق الصوفية المفضلة لدى كبار المسئولين الذين يقومون بالتعيينات.
115
وفي المستويات الدنيا من السلم الوظيفي، كان أتباع الجماعة يتقلدون المراتب الدنيا في وظائف الوعظ في البيروقراطية الدينية، وكان الصوفيون المميزون يحصلون على أفضل وظائف الوعظ؛ ومن ثم، فلا عجب من أن الصوفيين كانوا مكروهين ومنتقدين بسبب كونهم مترفين خارجين عن الدين الصحيح.
على الرغم من ذلك، كانت هناك مشكلات أخرى غير الوظائف الحكومية؛ فالتعاطف الذي وجدته جماعة قاضي زاده في الشوارع يشير إلى أنهم لم يكونوا مجرد طائفة ساخطة، وأنهم جزء من حملة التصحيح الأوسع نطاقا، المهتمة بالشاغلين المتلازمين المتمثلين في التدهور الأخلاقي والحاجة إلى التجديد؛ فقد كان كثيرون يعتبرون الصوفيين أساس المشكلة، بالإضافة إلى ذلك، فإن شعبية الحركة الماشيحانية بين يهود الإمبراطورية العثمانية، التي تركزت حول اليهودي شبتاي تسيفي (المتوفى عام 1676)، الذي زعم أنه الماشيح (المسيح المخلص) تشير إلى أن الرغبة في التجديد لم تكن مقتصرة على المسلمين، وأنها ربما نجمت عن توترات اجتماعية وسياسية أعمق أثرت على كل الجماعات في الإمبراطورية.
116
وحتى بعدما وهنت قوة جماعة قاضي زاده في ثمانينيات القرن السابع عشر، عاودت حملة التصحيح هذه الظهور في مناطق عديدة في الإمبراطورية العثمانية. وربما يكون هذا الانتشار مرتبطا بالمناطق الإسلامية الأخرى التي انتشرت فيها تلك الحملة، من خلال شبكات الكتب والمعلمين التي لم يتتبعها المؤرخون بعد؛ فعلى سبيل المثال: في عام 1711 أعلن أحد الوعاظ في القاهرة أن الأولياء الصوفيين غير قادرين على صنع المعجزات، وأنهم مفتقرون إلى أي معرفة خاصة محجوبة عن بقية المسلمين؛ ومن ثم، شجع مستمعيه على منع حلقات الذكر الصوفية، وتدمير أضرحة الأولياء الصوفيين، وتحويل المساكن الصوفية إلى مدارس؛
صفحة غير معروفة