وأثبت تروتسكي وهو في هذا الموقف المرعب أنه زعيم يسمو فوق الحوادث والأقدار، فأخذ يداعب من معه، ويصلح من المنزل الصغير الذي خصص لهم، وهي عملية أطلق عليها اسم «مقاومة إعادة البناء»، وأطلق على ابنه اسم «مدير البريد».
وهكذا استقرت الأسرة في هذا الركن المنعزل من نهاية العالم، وفي منطقة موبوءة بحمى الملاريا، تنتشر فيها الكلاب المتوحشة، وقد استقروا وعاشوا هناك بروح تتجلى فيها البساطة والرضاء بالأمر الواقع.
واستغرق تروتسكي في دراسة الجغرافية والتاريخ والاقتصاد الآسيوي، وقد ظهرت صورة لتروتسكي وزوجته في المنفى، والزوجة تضع يدها على كتف ابنها وتنظر في نفس الوقت إلى زوجها بعينين تملؤهما الثقة التي لا حد لها.
واستفاد تروتسكي من تجارب النفي الماضية، تلك التجارب التي كانت تساعده على التخلص من القيود المفروضة على المنفيين، ولكن ستالين كان يعرف تلك الحيل التي سبق له هو نفسه أن استعملها، كما أنه كان يعرف جيدا أن الخمسة آلاف كيلومتر التي تفصل تروتسكي عن العاصمة الروسية ليست مسافة كافية، وأنه لا يمكن أن يطمئن إلا إذا غادر عدوه البلاد.
ولذلك لم ينقض عام واحد على نفي تروتسكي حتى تلقى مرسوما ينبئه بأنه قد تقرر إبعاده إلى تركيا؛ لأنه قد تآمر ضد الاتحاد السوفييتي.
وكانت رحلة شاقة في شهر يناير، اجتاز فيها المبعدون نفقا في الجبال، ومسالك وعرة، وقطعوا فيها نحو 6500 كيلومتر في عشرين يوما، حتى انتهى بهم المطاف أخيرا إلى البحر الأسود، وهناك وجدوا الناقلة التي أعدت لهم عاجزة عن الحركة بسبب الجمد التي كانت تحيط بها من كل ناحية في البحر. وكان لا بد من الاستعانة بمحطمة جليد حتى يمكن للمنفيين استئناف الرحلة إلى القسطنطينية.
ولما تسلم ستالين تقريرا ينبئه برحيل تروتسكي نهائيا شعر براحة شديدة، وأحس كأن الجمد التي كانت تحيط به هو أيضا قد تحطمت، وأن في وسعه اليوم أن يبدأ عمله الإنشائي.
وبينما كان ستالين يقرأ التقرير استرعى نظره في الجزء الأخير اسم جعله يتوقف لحظة عن الاستمرار في القراءة ويقطب حاجبيه؛ فقد وقعت عيناه على اسم الباخرة التي أقلت تروتسكي وقادته إلى خارج روسيا.
لقد كان اسم الباخرة: لينين!
وأهم ما اتهم به تروتسكي ستالين هو أنه نبذ الثورة العالمية في سبيل «الاشتراكية في دولة واحدة»، ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ فإن ستالين لم ينبذ الثورة العالمية، وتروتسكي لم يرفض فرصة بناء الاشتراكية في روسيا.
صفحة غير معروفة