23
وينبغي أن نتنبه جيدا إلى هذه العبارة الأخيرة، لما لها من دلالة خطيرة على اتجاه تفكير اسپينوزا؛ فطالما أنك تبحث الأشياء من حيث هي ممتدة، فمن الواجب ألا تقحم في تفسيرك لها أي عنصر آخر سوى العناصر المتصلة بالامتداد، ومثل هذا يقال على النظرة إلى الأشياء من خلال صفة الفكر ومعنى ذلك أن اسپينوزا ينبه إلى ضرورة تجنب الخلط بين المجالين، الممتد والفكري، في تفسير الظواهر؛ وهو خلط طالما وقعت فيه النظرة اللاهوتية إلى الأشياء، إذ تضع «غايات» للظواهر الطبيعية، أو تنظر إلى الحوادث المنتمية إلى مجال الامتداد على أنها تفنيد لحظة عليا ذات طابع فكري، بل وتعد كشف العناصر الفكرية المتدخلة في مجرى الحوادث الممتدة أول شرط لفهم هذه الحوادث. •••
هذه بعض النصوص التي توضح وجهة نظر اسپينوزا من فكرة «مادية الله»، ولا جدال في أن وصف الله بالمادية، أو بالامتداد، يخالف تماما كل تراث فلسفي وديني سابق عليه، فصفة المادية صفة جديدة كل الجدة، أضافها اسپينوزا إلى فكرة الله، واعترف هو ذاته بأنه كان فيها مخالفا لكل من سبقوه.
ومن المؤكد أن هذه الإضافة، وحدها، كفيلة بأن تحسم موضوع العلاقة بين الله والطبيعة عند اسپينوزا. فإذا كان قد تبقى في الأذهان شك في أن فكرة الله عنده قد تكون مختلفة، إلى حد ما، عن فكرة الطبيعة، فإن هذا الشك ينبغي أن يتبدد تماما حالما يدرك الذهن الدلالة الحقيقية لنسبة صفة الامتداد إلى فكرة الله . وبعبارة أخرى: فإن الأذهان التي لا تعترف بأن اسپينوزا يقصد النظام الكلي للأشياء، أو الطبيعة في مجموعها، كلما استخدم كلمة «الله»؛ هذه الأذهان تقف حائرة تماما أمام وصف اسپينوزا لله بأنه ممتد. ولولا أن المشاعر الدينية لدى الكثير من المفكرين تؤثر - لا شعوريا على الأقل - في قدرتهم على التحليل الموضوعي لما كان المعنى الحقيقي لفكرة «الله» كما يستخدمها اسپينوزا موضوعا لجدل كثير منذ اللحظة التي يعلن فيها اسپينوزا أن الله يتصف بالامتداد مثلما يتصف بالتفكير.
24
ففي أي مذهب يجعل الله حقيقة مستقلة عن الطبيعة، يمكن أن يعد الله ممتدا؟ يكفي أن يستعرض المرء في ذهنه الصفات التي ترتبط بفكرة «الله» ليجد أن من المستحيل التوفيق بين أي معنى مألوف لهذه الفكرة وبين فكرة كون الله ممتدا. فصفة الامتداد ناشزة تماما وسط الصفات الأخرى التي تنسبها المذاهب الدينية والفلسفية عادة إلى فكرة الله، وهي وحدها كفيلة، إذا ما تمسكنا بها، بأن تجعل كثيرا من الصفات المألوفة مستحيلة؛ فكيف يكون الله خيرا، مثلا، إذا كان ممتدا؟ وعلى العكس من ذلك، فإن صفة الامتداد متسقة تماما مع معنى «النظام الكلي للأشياء» أو «الطبيعة في مجموعها»: ولا يمكن أن يوجد أي تناقض عندما يدرج الامتداد ضمن الصفات الأخرى لمجموع الطبيعة. وقد يقال إن صفة الفكر في هذه الحالة، هي التي تغدو متنافرة مع بقية أوصاف الطبيعة، ولكن هذا غير صحيح، فظاهرة الفكر موجودة في الطبيعة، تتمثل في نوع واحد من أنواعها على الأقل، هو الإنسان؛ أي إننا إذا تأملنا جميع العناصر التي تكشف عنها الطبيعة في مجموعها، فسنجد حتما أن الفكر واحد من هذه العناصر؛ وبذلك لا نكون قد خرجنا على الإطلاق على مفهوم الطبيعة كما نألفه إذا قلنا إن الطبيعة تتصف بالفكر مثلما تتصف بالامتداد. أما في حالة فكرة الله، فمن المؤكد أن مفهوم الامتداد يتعارض مع كل معانيها المألوفة. أما إذا حاولنا أن نتخلص من هذه الصعوبة بإدخال تعديل أساسي في مفهوم فكرة الله بحيث يتمشى مع إمكان الاتصاف بالامتداد، فلا جدال في أن المفهوم الناتج بعد هذا التعديل سيكون شيئا جديدا كل الجدة، لا يكاد يتصل بين المفهوم السائد في شيء، بل يصبح فكرة جديدة مختلفة تماما عن الفكرة التي تنصرف إليها أذهاننا كلما قيل لفظ «الله» أمامها - فكرة يكون لفظ «مجموع الطبيعة» هو في واقع الأمر أصلح الألفاظ للانطباق عليها. ولنذكر هنا مرة أخرى ما رددناه مرارا من قبل، من أن الأمر الذي ينبغي أن نهتم به ليس هو الألفاظ ؛ أعني ليس الصورة الكلامية للفظ «الله»، وإنما المعاني الكامنة من وراء اللفظ، بحيث إنه إذا طرأ على هذه المعاني تغيير حاسم، واستبقى اللفظ ذاته في صورته الكلامية فحسب، فليس لنا أن ندع هذه الصورة الكلامية تؤثر فينا بارتباطاتها القديمة، وإنما الواجب - لكي يكون التحليل دقيقا - أن نتخلى عن كل هذه الارتباطات ونتأمل المعاني الجديدة في ضوئها الخاص.
ومع ذلك فإن الكثيرين من شراح اسپينوزا لا يودون أن يعترفوا بأن المساواة التامة بين ما يقصده اسپينوزا من فكرة الله وبين فكرة الطبيعة في مجموعها هي أمر يحتمه - ويكشف حقيقته - القول بأن الامتداد من صفات الله. وهكذا تراهم يفسرون هذا القول الأخير على أنحاء تترك مجالا للتفرقة التي لا يريدون التخلي عنها، في تفسيرهم لفلسفة اسپينوزا، بين فكرتي الله والطبيعة.
مثال ذلك أن «برييه
Bréhier » يفسر صفة الامتداد الإلهية هذه بأنها صفة ينبغي ألا تفهم إلا في سياق الفيزياء الديكارتية، التي تميز بين الامتداد من حيث هو موضوع للفهم والامتداد من حيث هو موضوع للتخيل؛ فالامتداد الثاني هو المنقسم المؤلف من أجسام جزئية. أما الامتداد بالنسبة إلى الفهم فهولا متناه ولا منقسم. ويخلص من ذلك إلى أن «رأي اسپينوزا لا يغدو ممكنا إلا لأن الامتداد يصبح مبدأ للمعقولية.»
25
صفحة غير معروفة