فإذا كان إنكار الغائية وحده يعد من أقوى مظاهر الروح العلمية السليمة، فلا جدال في أن محاولة تفسيرها نفسيا وتاريخيا تعد مساهمة أعظم في دعم هذه الروح العلمية، وهي مساهمة تدعو إلى الاستغراب حقا بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه اسپينوزا.
ويقدم اسپينوزا تفسيرا لسلوك الأحياء - ومنها الإنسان ذاته - خلا تماما من كل نوع من الغائية. ويقوم هذا التفسير على نزوع
conatus
الكائنات كلها إلى حفظ وجودها، وهو نزوع طبيعي بحت، لا شأن له بأية غاية. وهو يصف نزوع الكائنات إلى الاستمرار في الوجود بأنه ماهيتها الفعلية، ويعقب على هذه الملاحظات العامة بقوله: «إن هذا النزوع، عندما يتعلق بالذهن وحده، يسمى بالإرادة، وعندما يتعلق بالذهن والجسم مقترنين يسمى بالميل الاشتهائي
Appetitus
وما هو في الواقع إلا ماهية الإنسان، التي تتلو منها بالضرورة كل النتائج الرامية إلى حفظه والتي يتحتم على الإنسان بالتالي أداؤها. ... والرغبة هي الميل الاشتهائي مصحوبا بالإدراك الواعي له. وهكذا فمن الواضح مما قلناه أننا لا نسعى على الإطلاق إلى أي شيء أو نتمناه أو نتوق إليه أو نرغبه؛ لأننا نعتقد أنه شيء طيب، بل إننا على العكس من ذلك نراه شيئا طيبا لأننا نسعى إليه أو نتوق إليه أو نرغبه.»
52
مثل هذا التفسير - الذي طالما نوه عنه الباحثون باستباقه لبعض النظريات الحديثة في علم النفس، مثل نظرية چيمس-لانجه في علاقة الانفعالات بأسبابها - كان انقلابيا بالنسبة إلى عصر اسپينوزا، وهو، وإن يكن قائما على أساس نظري بحت، محاولة لها قيمتها الكبرى لاستبعاد كل العناصر الغائية من مجال السلوك البشري، ولإيجاد مبدأ واحد طبيعي صرف - بل قد يعد ميكانيكيا من وجهة نظر معينة - هو مبدأ نزوع الكائن إلى حفظ وجوده أو الاستمرار في وجوده، وعن طريق هذا المبدأ، الذي لا يداخله أي عنصر غائي أو تقويمي، ينتقل اسپينوزا تدريجيا إلى تفسير كل أوجه السلوك البشري على نحو لا تكون فيه إلا مظاهر لاتجاه مطرد، لا ينطوي على أي تباين كيفي، يسعى فيه الإنسان، كسائر الكائنات الحية، إلى حفظ وجوده وإبقائه مستمرا، ولا تكون الغايات الظاهرة للسلوك إلا تعبيرا معقدا ، غير دقيق، عن هذا النزوع الأصلي. •••
ولا شك أن القضاء على الغائية في سبيل تأكيد فكرة الضرورة، يرتبط حتما بفلسفة خاصة في القيم تنكر كل ما لهذه القيم من طابع أنتولوجي أو وجود واقعي، وتتضح معالم هذه الفلسفة عند اسپينوزا في عبارته الموجزة: «الواقع والكمال عندي لفظان مترادفان.»
53
صفحة غير معروفة