هذه الشواهد السابقة كلها تقطع بأن مشكلة التفرقة بين المعنى الظاهر، والمعنى الفعلي الباطن لكتابات اسپينوزا كانت مشكلة حقيقية، وأن المرء لا يستطيع أن يفهم فلسفته حق الفهم إذا تغاضى عن هذه الفكرة الهامة، فكرة وجود «قناع» أو «سر » في فلسفة اسپينوزا. وفي رأينا أن الدلالة الكبرى للمنهج الهندسي هي أنه يتيح للكاتب مثل هذا القناع الذي يخفى سره الحقيقي.
وحين نقول ذلك لا نعني أن هذا هو الغرض الوحيد من استخدام المنهج الهندسي؛ فقد صرح اسپينوزا نفسه بأنه أراد أن يستخدم هذا المنهج ليستبعد من تفكيره كل عامل شخصي، ولكي يبحث في انفعالات البشر بنفس الموضوعية التي يبحث بها عالم الهندسة في النقط والخطوط والسطوح. ونحن لا ننكر هذا الهدف على الإطلاق، ولكننا نعتقد في الوقت ذاته أن المنهج الهندسي، إذا ما نظر إليه في ضوء ظروف اسپينوزا التي أشرنا إلينا من قبل، يغدو في يده وسيلة لإخفاء آرائه الحقيقية عن القراء السطحيين، بحيث لا يتوصل إليها إلا المدققون، الذين يكون لديهم من العمق العقلي ما لا يجعلهم خطرا عليه.
ولقد توسعنا من قبل في فهم المنهج الهندسي، من حيث إنه يلجأ إلى طريقة المعادلات، وقلنا إنه بهذا المعنى يمكن أن يعد مطبقا في مؤلفات اسپينوزا، ولا سيما «البحث اللاهوتي السياسي»، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن أكمل وأدق تطبيق له كان في كتاب «الأخلاق»، الذي استخدم فيه الأسلوب الهندسي من جهة، و«طريقة المعادلات» من جهة أخرى، بكل براعة.
وما دام المنهج الهندسي في رأينا وسيلة للحذر، وما دام مطبقا على أكمل وجه ممكن في كتاب «الأخلاق». فلا بد أن هذا الكتاب هو أشد كتب اسپينوزا حذرا، وأبعدها عن التعبير، بطريقة مباشرة، عن آراء اسپينوزا. وهذا الرأي مناقض تماما لرأي «فريدمان»، الذي يقول فيه: إن اسپينوزا كان يحتاط في «البحث اللاهوتي»، بينما لم يكن يحتاط أبدا في كتاب «الأخلاق»: «الذي أماط فيه اللثام، دون مواربة، عن جوهر تفكيره.»
27
ونحن نعترف بأن اسپينوزا كان حذرا في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» بقدر ما استخدم فيه «طريقة المعادلات»، كما ذكرنا من قبل ولكن لا جدال في أنه، مع حذره هذا، لم يتمكن من إخفاء آرائه؛ إذ إن هذا الكتاب كان هو السبب فيما لحقه من اضطهاد، بينما كتاب «الأخلاق » لم ينشر في حياته على الإطلاق، وسنرى فيما بعد أمثلة عديدة لآراء أبداها اسپينوزا في هذا الكتاب وكان أقلها كفيلا باستعداء السلطات الدينية عليه.
ونستطيع أن نقول إن التجربة المريرة التي عاناها اسپينوزا من «البحث اللاهوتي» قد أقنعته بأن حذره في هذا المجال غير كاف. وهكذا قرر أن يتمسك بطريقة العرض الهندسية. وكان الوقت أمامه فسيحا؛ فقد رأينا كيف أن كتاب «الأخلاق» قد عاصره طيلة حياته الناضجة كلها تقريبا. وقد كان الجزء الأكبر منه تاما في 1665م، وعندما ظهر «البحث اللاهوتي السياسي» في 1670م، ظلت أمامه سبع سنوات كاملة حتى وفاته عام 1677م، لا عمل له فيها (بالإضافة إلى الرسائل القصيرة التي لم يتمها في السياسة وإصلاح العقل) إلا صقل هذا الكتاب وزيادة إحكامه، ومن الطبيعي أنه كان يستفيد خلال ذلك بالتجارب التي اكتسبها من رد الفعل على «البحث اللاهوتي»، ويستخدم طريقة العرض الهندسية في توزيع أفكاره بين أجزائه المختلفة وعرضها على النحو الذي يضمن له أكبر قدر من السلامة الشخصية، ولو لم نفترض ذلك لكان اسپينوزا قد ظل طوال السنوات السبع الأخيرة من حياته خاملا تقريبا. فكيف إذن يقال على كتاب صيغ بمثل هذه الطريقة المصطنعة، ومر بكل مراحل الصقل هذه، أنه تعبير «مباشر» عن آراء صاحبه؟ (5) هل كان اسپينوزا يفتقر إلى الشجاعة والإخلاص في تعبيره؟
من أقوى الاعتراضات التي توجه إلى القول بوجود معان خفية لآراء اسپينوزا تكمن من وراء تعبيراتها الظاهرة - وهو القول الذي يرتكز عليه تفسيرنا لدلالة المنهج الهندسي - أن ذلك معناه أن اسپينوزا كان مخادعا بمعنى ما؛ لأنه لم يصرح مباشرة بما في ذهنه. وهذا أمر يتنافى مع ما عرف عنه من شجاعة عقلية.
ويستنكر «سليڨان
Sullivan » هذا الافتراض بشدة قائلا: «إن مثل هذه النظرة الپرجماتية إلى كلمات اسپينوزا بعيدة عن مزاجه العقلي ونزاهته الذهنية إلى حد يكاد يجعلها مستحيلة التصديق.»
صفحة غير معروفة