ويبدو أن اسپينوزا قد حرص على أن يستفيد من هذه الصفة في المنهج الرياضي إلى أقصى حد ممكن؛ ففي المعادلات الرياضية، على ما يبدو، طرف مألوف، هو الرمز، الذي تستطيع أن تفهمه بأي معنى تشاء، ثم طرف آخر هو الدلالة الحقيقية لهذا الرمز، وهي دلالة كثيرا ما تكون عظيمة التعقيد، وبتطبيق «طريقة المعادلات» هذه في الفلسفة، وجد اسپينوزا الحل الذي ينشده، والذي يكفل له عرض أجرأ الآراء وأبعدها عن المألوف في عصره، على نحو ينأى بها عن أفهام العامة، أما الخاصة الذين سيصلون إلى فهمها، فهؤلاء لا خطر منهم على الإطلاق.
ذلك لأن الطرف المقابل للرمز الرياضي س في معادلة مثل س =
هو لغة الفلسفة التقليدية، والطرف المقابل للجذر الأصم هو تعريفات اسپينوزا الخاصة لهذه اللغة. الطرف الأول هو اللغة المدرسية واللاهوتية التقليدية، وهي لغة مألوفة مأمونة يكفي أن يستخدمها المرء في كتابته ليعتقد الناس أنه يتمشى تماما مع تراثهم ويكمله. والطرف الثاني هو المعاني الثورية الجديدة، التي خلت تماما من جميع العناصر الأسطورية، والتي كان يحتشد بها ذهن اسپينوزا المفرط في معقوليته. والحل في نظر اسپينوزا هو أن يضع الطرفين معا في معادلة واحدة، كما يفعل علماء الرياضة، وينبع القارئ إلى هذه المعادلة في البداية؛ فهو يقول أولا: إن س =
ثم يظل يستخدم بعد ذلك الرمز البريء، المألوف، المأمون س، بعد أن نبهك إلى معناه الحقيقي لديه، وبعد ذلك يستطيع أن يطمئن إلى أن القارئ الذكي سوف يستحضر في ذهنه دائما المعنى المعقد
كلما صادف أمامه س. أما القارئ الساذج الذي يجيء منه الخطر الحقيقي، فسرعان ما ينسى ذلك، ويعتقد، كلما شاهد س، أنها نفس الحرف البريء المظهر الذي يألفه في عالمه المعتاد ، وبذلك يكون اسپينوزا قد حقق هدفين مزدوجين: أولهما ألا يصل إلى معانيه إلا القادرون ذهنيا على بلوغها، وثانيهما أن يقدم أفكاره إلى السذج في صورة ترضي أذهانهم الضعيفة ولا تنطوي على تحد أو استفزاز لمشاعرهم.
وأول دليل على هذا التفسير لدلالة المنهج الهندسي، هو ما يعترف به الجميع من أن اسپينوزا كان يستخدم المصطلحات التقليدية بمعان جديدة؛ فمن المؤلفين القدماء نجد «بيل
Bayle » يقول في قاموسه: «إذا كان المرء يعجز عن فهم ما يعنيه، فذلك بلا شك لأنه أضفى على الألفاظ معنى جديدا كل الجدة، دون أن ينبه قارئه إليه» (والجزء الأخير باطل قطعا). كذلك قال الشاعر الألماني الكبير جيته (وكان من أكبر المعجبين باسپينوزا) إن كل شخص يستطيع أن يفهم من كتابات اسپينوزا غير ما يفهم الآخر، وأخيرا يقول شوپنهور: «لقد ارتكب اسپينوزا، على العموم، هذا الخطأ الكبير، وهو أنه تعمد إساءة استخدام الألفاظ للدلالة على تصورات تشير إليها في العالم كله أسماء أخرى، وبذلك نزع عنها المعنى الذي ينسبه إليها الجميع.
17
على أن هذه المعاني الجديدة لم تكن اعتباطية تماما، كما اعتقد هؤلاء المفكرون، وإنما كان اسپينوزا يعدها أكثر اتساقا مع طبيعة الألفاظ والتعبيرات التي يعرفها، فاستخدام هذا المنهج يحقق في رأيه هدفين؛ إذ يعطي لآرائه الثورية مظهرا بريئا، ويؤدي في الوقت ذاته إلى تفسير أكثر اتساقا للمشاكل التقليدية التي أخطأ فهمها القدماء.
وفي ضوء هذا التفسير للمنهج الهندسي، نستطيع أن نقول إن المنهج، بهذا المعنى، لا يقتصر على كتاب «الأخلاق» وحده. حقا إن هذا الكتاب - من بين كتب اسپينوزا الناضجة - هو وحده الذي ألف في صورة قضايا مبرهن عليها هندسيا، غير أن اسپينوزا يستخدم في المؤلفات الأخرى بدورها «طريقة المعادلات»، بمعنى أنه يأتي بتعريفات جديدة لألفاظ مألوفة ويعتمد على قدرة ذهن القارئ على تتبع هذه المعاني على الدوام. وسنضرب لذلك أمثلة قليلة من كتاب «البحث اللاهوتي السياسي».
صفحة غير معروفة