ومن شأن هذا التفكير في الانفعالات أن يقضي على طابعها السلبي، الذي تكون فيه انفعالات هوجاء مرتبطة بأفكار غامضة غير كافية، ويحيلها إلى انفعالات مبنية على أفكار واضحة متميزة، ويفصل ما بين الانفعال وسببه الخارجي المباشر، ليربطه بأفكار عقلية صحيحة، وبذلك تتخلص النفس من عبودية الانفعال عن طريق تأمله في ضوء العقل الباهر.
27
وهكذا يبدو أن اسپينوزا يوافق على رأي سقراط القائل إن الفضيلة علم والرذيلة جهل. ولكنه يعرض الفكرة على طريقته الخاصة؛ فللمعرفة أنواع ثلاثة هي الظن والاعتقاد والمعرفة الواضحة. الأولى أصل الانفعالات المخالفة للعقل، والثانية أصل الرغبات الطيبة، والثالثة أصل الحب الحقيقي. وهكذا يصحح اسپينوزا قول سقراط بحيث يصبح: الرذيلة معرفة باطلة أو ظن معرض للخطأ، والفضيلة معرفة صحيحة.
28
وليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عن نفعه في سبيل التحليل العقلي المنطقي لكل الانفعالات، فالتفكير والمعرفة لا يتعارضان مع تحقيق الإنسان لنفعه، بل إنهما في الواقع يساعدان عليه؛ فهو يعارض القائلين بأن سعي الإنسان إلى تحقيق نفعه الخاص رذيلة، ويثبت في مجموعة من القضايا أن سعي الإنسان إلى نفعه الخاص، إذا استرشد بالعقل، يكون هو ذاته قوام الفضيلة، وهكذا يتسلسل تفكيره، في الباب الرابع، على النحو الآتي؛ ففي القضية رقم 19 يقول: إن كل شخص يرغب بطبيعته فيما يراه خيرا ويحجم عما يراه شرا. وفي القضية 20، يرى أن فضيلة الإنسان تكون في سعيه إلى نفعه؛ أي حفظ كيانه. ومن المحال، كما يقول في القضية 22، أن نتصور فضيلة أسبق من محاولة الإنسان حفظ وجوده. ثم يشرح دور العقل والفهم في القضية 23، فيقول: إن الإنسان لا يتصرف وفقا لفضيلته إلا إذا كان يفهم فعله. ويلخص رأيه في القضية 24 بقوله: إن السلوك وفقا للفضيلة يعادل تماما سلوك المرء وعيشه وحفظه لوجوده (وهي كلها ألفاظ مترادفة) وفقا لما يمليه العقل، وعلى أساس مبدأ السعي إلى ما فيه نفعه الخاص. ويعبر عن ذلك تعبيرا أكثر إيجازا في القضية 31 فيقول: إن «الشيء يكون خيرا بالضرورة بقدر ما يكون منسجما مع طبيعتنا.»
وطالما أن الفضيلة ترتبط بالفهم، فمن الطبيعي أن يزداد المرء اقترابا منها كلما اتسع نطاق فهمه للأشياء، حتى إذا ما توصل إلى تأمل النظام الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة حقق بذلك أسمى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من الفضائل، وأمكنه التغلب تماما على انفعالاته عن طريق ربطها بالضرورة الكونية الشاملة، ويعبر اسپينوزا عن هذه الفكرة بأسلوب مدرسي فيقول: إن «أسمى خير للإنسان هو معرفة الله، وأسمى فضيلة للذهن هي أن يعرف الله.»
29
ويظهر المعنى الحقيقي لمثل هذه التعبيرات في قوله: «إن من يدرك بحق أن جميع الأشياء تتلو من ضرورة الطبيعة الإلهية، وتحدث وفقا لقوانين الطبيعة وقواعدها الأزلية، لن يجد شيئا يستحق الكراهية أو الازدراء أو الاحتقار، ولن يرثي لشيء، وإنما سيحاول، على قدر ما تسمح به فضيلة البشر، أن يسلك سلوكا طيبا، وينعم، كما يقول المثل.»
30
ففي الجزء الأول من القضية يتحدث عن ضرورة الطبيعة الإلهية، ويوضح ما يقصده منها حين يلحقها بالكلام عن قوانين الطبيعة وقواعدها الأزلية. وهكذا يكون التعبيران في هذا الصدد مترادفين عنده. وعلى أساس هذا الترادف يمكن أن ندرك بوضوح الدلالة الحقيقية للقضية الآتية، ذات المظهر الصوفي: «إن من يفهم ذاته وانفعالاته بوضوح وتميز، يحب الله، ويزداد هذا الحب بقدر ما يزداد فهما لذاته وانفعالاته.»
صفحة غير معروفة