ب اختبار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها، وإبقاء ما هو صحيح، ويعبر عن هذا "بالسَّبْر"عند الأصوليين، "وبالترديد" عند الجدليين.
قال شيخنا الكريم محمد الأمين الشنقيطي – نور الله مرقده وفي غرف الجنان أرقده –: ومن أمثلة السَّبْر والتقسيم، في القرآن العظيم، قول رب العالمين: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ فكأنه – تعالى – يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح:
الأول: أن يكونوا خلقوا من غير شيء: أي بدون خالق أصلًا.
الثانية: أن يكونوا خلقوا أنفسهم.
الثالثة: أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم.
ولا شك أن القسمين الأوليين باطلان، وبطلانهما ضروري كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه (١) .
والثالث الحق الذي لا شك فيه، وهو – جل وعلا – خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه جل وعلا – (٢) .
_________
(١) قال الإمام القرطبي في تفسيره: (٢/٢٠١-٢٠٢): فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها؟ قيل: هذا محال، لأنها لو أحدثت نفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالًا، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث نفسها، وأيضًا فلو جاز ذلك لجاز أن يحدث البناء نفسه، وكذلك التجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال.
(٢) انظر أضواء البيان: (٤/٣٦٨-٣٦٩)، وانظر كلام الأصوليين على دليل السَّبْر والتقسيم في روضة الناظر: (٢/٢٩٣-٣٠٩)، وفواتح الرحموت: (٢/٢٩٥-٣٠٢) والتحرير: (٤٦٤-٤٦٩)، وأصول الفقه للخضري: (٣٥٧-٣٦٠) .
ولهذا الدليل العظيم، نفع عميم، فقد ألهمه ربنا الكريم، لبعض الأجلة من أئمة المسلمين، فقضى بسببه على فتنة عظيمة في الدين ففي تاريخ بغداد: (٤/١٥١-١٥٢) ومناقب الإمام أحمد: (٣٥٠-٣٥٦) والبداية والنهاية: (١٠/٣٢٠)، وتاريخ الخلفاء: (٣٤٢) عن محمد المهدي بن الخليفة الواثق قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلًا أحضرني فجيء برجل [وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي شيخ أبي داود، والنسائي كما في التقريب: (١/٤٤٦)، وتهذيب التهذيب: (٦/٥)، والأذرمي نسبة إلى أذرمة من أعمال نصيين كما في اللباب: (١/٣٨)، ومراصد الاطلاع: (١/٤٧)] مكبل بالحديد، فدخل على والدي فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له: عليك السلام، فقال الرجل: بئسما أدبك به مؤدبك يا أمير المؤمنين، قال الله – تعالى – ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ النساء٨٦ والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها عليّ، فقال الخليفة الواثق لابن أبي دؤاد [وهو أحمد بن أبي دؤاد جهميّ بغيض قلَّ ما روي كما في الميزان: (١/٩٧)، وفي اللسان: (١/١٧١)، ويقال: إن الإمام أحمد كان يطلق عليه الكفر (١هـ)، وفي البداية والنهاية: (١٠/٣١٩) ولى القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة.... وقد ابتلاه الله قبل موته بأربع سنوات بالفالج، وحرمه لذة الطعام والشراب والنكاح، فدخل عليه أحد أهل السنة فقال له: ما جئتك عائدًا، وإنما جئتك لأعزينك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك من كل سجن، ثم خرج داعيًا عليه، فازداد مرضه، ثم صودر ماله، ثم هلك سنة ٢٤١هـ ومن مخازيه ما في تاريخ الخلفاء: (٣٤١) أنه في سنة ٢٣١هـ استفك الواثق من الروم ألفًا وستمائة أسير مسلم، فقال ابن أبي دؤاد: من قال من الأسارى: (القرآن مخلوق) خلصوه وأعطوه دينارين ومن امتنع دعوه في الأسر] إن الرجل متكلم فناظره، فقال ابن أبي دؤاد: أحبرني عن القرآن هو مخلوق أم لا؟ فقال له الشيخ: والله ما أنصفتني، السؤال لي، وليس لك، هل علم هذه المسألة رسول الله – ﷺ –، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – ﵃ – أم لم يعلموها؟ فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموها، فقال الشيخ: شيء لم يعلمه رسول الله – ﷺ – وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – ﵃ – علمته أنت؟ فقال ابن أبي دؤاد: أقلني جوابي، والمسألة بحالها، أقول: قد علموها، فقال الشيخ: أفوسعهم أن لا يتكلموا به ويسكتوا عنه، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ فقال ابن أبي دؤاد: بلى وسعهم، فقال الشيخ: فشيءٌ وسع رسولَ اللهِ – ﷺ، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – ﵃ – لا يسعك أنت؟ فانقطع ابن أبي دؤاد، قال محمد المهدي الواثق: فقام والدي إلى حجرة أخرى، واستلقى على ظهره، وأعاد كلام الشيخ، فقال شيء لم يعلمه رسولُ الله – ﷺ، لا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي – ﵃ – يعلمه ابن أبي دؤاد؟ شيء وسع رسولَ الله – ﷺ، وأصحابه السكوتُ عنه؟ ألا يسع ابن أبي دؤاد السكوت عنه؟ ثم قام: فدخل المجلس، وقال: فكوا وثاق الشيخ، واعتذر له، وأكرمه، وأعطاه أربعمائة دينار، وقال لابن أبي دؤاد: قم وسقط من عينه، ثم أمر أن لا يمتحن أحد بخلق القرآن.
قال ابن كثير في البداية بعد سرد هذه القصة: كما ذكرها الخطيب بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وفي تهذيب التهذيب: (٦/٥) قلت: القصة مشهورة، حكاها المسعودي وغيره، ورواها السياري في الألقاب بإسناد له، قال فيه: إن المناظر هو الشيخ الأذرمي، ورواها محمد بن النجار في ترجمة محمد بن الجهم السامي، قال شيخنا في الأضواء: (٤/٣٧٩): ويستأنس لهذه القصة بما ذكر الخطيب: (١٤/١٨): وكان ابن ابي دؤاد قد استولى على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، ودعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، ويقال: إن الواثق رجع عن ذلك ١هـ.
وفي مناقب الإمام أحمد: (٣٥٠) يقول ابن الجوزي: وقد روي أن الواثق ترك امتحان الناس بسبب مناظرة جرت بين يديه، رأى أن الأولى ترك الامتحان، وقال في: (٣٥٦): قلت: وقد روي أن الواثق رجع عن القول بخلق القرآن قبل موته ١هـ، قال شيخنا في الأضواء: (٤/٣٨٠) وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عن العلماء، صحيحة الاحتجاج، فيها إلقاء الخصم الحجر، وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ – الذي كان مكبلًا بالقيود، ويراد قتله – أحمد بن أبي دؤاد حجرًا، وهو هذا الدليل العظيم، والذي هو السَّبْر والتقسيم، فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين:
إما أن يكون النبي – ﷺ –، وخلفاؤه الراشدون – رضي الله تعالى عنهم ٠ عالمين بها، أو غير عالمين بها – ولا واسطة بين العلم وغيره، فلا قسم ثالث ألبتة، ثم إنه رجع بالسَّبْر الصحيح إلى القسمين المذكورين، فبين أن السَّبْر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين، ما على أن النبي – ﷺ – كان عالمًا بها، هو وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – وتركوا الناس، ولم يدعوهم إليها، فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي – ﷺ – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – من عدم الدعوة إليها، وكان يسعه ما وسعهم.
وإما على كون النبي – ﷺ – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – غير عالمين بها، فلا يمكن ابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها، مع عدم علمهم بها، فظهر ضلاله على كل تقدير، ولذلك سقط من عين الواثق، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم، فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى، حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور.
1 / 32