مصادر الشعر الجاهلي
الناشر
دار المعارف بمصر
رقم الإصدار
الطبعة السابعة ١٩٨٨
تصانيف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
صلتي بالشعر الجاهلي قديمة، ترجع إلى أكثر من عشرين سنة، أيام كنا نحفظ المعلقات. فاستهوتني كما لم يستهوني سائر الشعر الذي كنا نحفظه. ثم تدرجت في مراحل الدراسة، وزاد محفوظي من الشعر العربي على اختلاف عصوره، ولكن استهواء الشعر الجاهلي كان يزداد حتى ليطغى على غيره. وكان شعورًا ساذجًا غير معلل، وما كنت مستطيعًا تعليله ولو أردت.
ثم قرأت -قبيل دخولي الجامعة- كتاب الأستاذ الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي، ففتح أمامي آفاقًا فسيحة من التفكير، ودفعني إلى أن أنظر في هذا الشعر نظر المتسائل عن قيمته وصحته، وحملني على أن أستقصى الموضوع من جذوره، وأتتبعه من جميع أطرافه.
وصرت -كلما قطعت شوطًا في دراستي الجامعية- أستبين جوانب جديدة من قيمة العصر الجاهلي وشعره، وخطرهما في دراسة الأدب العربي في عصوره الإسلامية. فالعصر الجاهلي -في حساب الزمن- أول عصور التاريخ العربي، ونحن لا نستطيع أن نعرف قومنا في مراحل تطورهم، ومواطن انتشارهم، إذا لم نعرفهم في موطنهم الأصيل وفي عصرهم الأول. ثم إن الشعر الجاهلي هو الأصل الذي انبثق منه الشعر العربي في سائر عصوره، وهو الذي أرسى عمود الشعر، وثبت نظام القصيدة، وصاغ المعجم الشعري العربي عامة؛ ولست أفهم كيف نستطيع أن نحكم على ما في شعر العصور الإسلامية من تطور وتجديد إذا لم نصل من أمر الشعر الجاهلي إلى مفصل نطمئن عنده.
1 / 1
ثم إن في هذا الشعر الجاهلي وفرة من القيم الفنية الأصيلة لم يحظ بها كثير من الشعر العربي بعده: ففيه من خصب الشعور، ودقة الحس، وصدق الفن، وصفاء التعبير، وأصالة الطبع، وقوة الحياة، ما يجعله أصفى تعبير عن نفس العربي، وأصدق مصدر لدراسة حياته وحياة قومه من حوله.
من أجل ذلك كله عزمت، حين أنهيت دراستي الجامعية الأولى، على مواصلة بحث الشعر الجاهلي ودراسته. فقضيت أربع سنوات أبحث فيها بعض هذا الشعر، وبعض ما كتبه القدماء والمحدثون عنه وعن العصر الجاهلي عامة، وخرجت من هذه الدراسة برسالتي الأولى لدرجة "الماجستير" عن "القيان وأثرهن في الشعر العربي في العصر الجاهلي". ومع ما بذلت من جهد، وأنفقت من وقت، وحققه البحث من نتائج، فقد كنت أحس أنني أسير في طريق لا أكاد أستبين فيها مواطئ قدمي، وأن عليَّ أن أعود أدراجي، ثم أبدأ بداية جديدة لا أخطو فيها خطوة إلا بعد تثبت وتيقن.
وعدت، وبدأت الطريق من أوله، وقضيت أربع سنوات أخرى، خرجت منها بهذا البحث لدرجة "الدكتوراه"، وأنا مقتنع بأن هذا الموضوع الذي أبحثه هو الخطوة الأولى الصحيحة التي تسبق كل خطوة غيرها -في سبيل دراسة الشعر؛ وأن بحث هذا الشعر بحثًا مجديًا لا يتم إلا عن طريق دراسة خارجية أولًا، تعنَى بمصادره جملة في مجموعها، وتبحث رواية هذه المصادر وتسلسلها، ورواتها ومدى الثقة بهم، ثم تتتبع المصادر الأولى التي استقى منها أولئك الرواة، خطوة خطوة، حتى تصل بين هؤلاء الرواة والشاعر الجاهلي نفسه. وكل دراسة قبل هذه إنما هي تجاوز عن الأصل الأول الذي لا بد من البدء به، وأحسب أن كثيرًا من الخطإ الذي وقع فيه من ضعفوا وسيلة حفظ هذا التراث الخالد، ووهنوا طريقة نقله وروايته، إنما أتوا من هذا التجاوز والإغفال لنقطة البدء الصحيحة.
1 / 2
وقد بذلت أقصى الجهد في أن أنهج نهجًا علميًّا خالصًا: لا أميل مع هوى، ولا أتعصب لرأي، ولا أعتسف الطريق من أمامي اعتسافًا. بل لعل من الصواب أن أذكر أني، حين دخلت في الموضوع، لم يكن يحفزني إلا الموضوع نفسه؛ ولم يكن نصب عيني غاية بذاتها أتوخاها وأرمي إلى إقامة الدليل عليها، غير الغاية المجردة التي سينتهي إليها البحث الموضوعي وحده؛ فقد كان قلبي مع هذا الشعر حين كنت أقرؤه، وكان عقلي عليه حين كنت أقرأ عنه، فأردت أن أصل إلى يقين يجتمع عنده اقتناع العقل واطمئنان القلب معًا. ولم يكن أمامي سبيل لذلك إلا أن آخذ نفسي بتحري المنهج العلمي الدقيق، والتزام حدوده التزامًا لا ترخص فيه:
فشرعت أقرأ، والغموض يحيط بي، والحيرة تأخذني من كل جانب. وقضيت نحو ثلاثة سنوات لا أكتب في الموضوع شيئًا غير ما كنت أدونه في جزازات متفرقة من نصوص وأخبار وروايات، تتصل بالموضوع في صميمه، أو تدور عليه من حوله. وكنت كلما قطعت شوطًا اتضح لي جانب، فأضطر أحيانًا إلى أن أقرأ مرة أخرى بعض ما كنت قرأت، لأسجل منه -على ضوء فهمي الجديد- بعض ما كنت أغفلت. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن جمعت من النصوص ما أتاح لي تمثل الموضوع تمثلًا كاملًا أو مقاربًا.
ثم عدت إلى النصوص: أستكمل جمعها وتقييدها، وأرتبها في مجموعات، ينتظم كل مجموعة منها موضوع واحد، وتلتقي الموضوعات في فصول، والفصول في أبواب. ثم مضيت أفحص هذه النصوص، وأدرسها دراسة دقيقة: تقوم على استقراء النص واستنطاقه، واستشفاف دلالاته، في حدود ألفاظه ومراميه، من غير تحميل له فوق ما يحتمل، ولا توجيهه وجهة بعينها لا تتضمنها ألفاظه.
ولم أكن أكتفي بوجه واحد من الأمر حين يكون له وجهان أو وجوه، وإنما كنت أعرض كل وجه، وأقلبه على جوانبه، وأستوفي أدلته وشواهده، ثم أقابل بين هذه الوجوه المختلفة وأناقشها، وأنتهي إلى ترجيح واحد منها حين يتيسر الترجيح.
1 / 3
وإذا كانت نتائج البحث الأدبي والتاريخي عامة تعتمد -في أغلبها- على الروايات والأخبار والنصوص، فإن من الطبيعي أن تجيء نتائج ظنية ترجيحية؛ لا سبيل إلى الوصول إليها إلا بجمع هذه الروايات والأخبار والنصوص، واستقصائها، ودراستها دراسة قوامها: مقابلة بعضها ببعض، ومناقشتها، ونقد إسنادها ومتنها، بحيث ينتهي كل ذلك إلى تغليب نص على آخر، أو ترجيح رواية على غيرها، أو تفضيل خبر على سائر الأخبار. ولا سبيل في مثل هذه الأبحاث إلى اليقين القاطع، والقول الفصل، اللذين لا يتوافران إلا في العلم التجريبي وحده، حين يستطيع المرء، في معمله أو مختبره، أن يعيد التجربة عمليًّا ليقيم البرهان على صحة ما يذهب إليه. ومن أجل ذلك تجنبت أن ألقي الأحكام إلقاءً عامًّا قاطعًا، وإنما سقتها في صيغ ترجيحية غالبة.
ومع هذا كله، ففي البحث حماسة أحيانًا، وإلحاح على مسائل بعينها أحيانًا أخرى؛ ولكن ذلك كله إنما هو نتيجة طبيعية لاحقة، وليس مقدمة مفتعلة سابقة. فإن من الطبيعي، في المنهج العلمي نفسه، أن يندفع الباحث -في غير مغالاة ولا إسراف- في حماسته لبحثه وآرائه، بعد أن يكون قد وصل -عن طريق هذا المنهج العلمي- إلى أدلة يقتنع بصوابها، وحجج يطمئن إلى سلامتها، فيؤكدها كلما سنحت له فرصة للتأكيد، ويلح عليها كما أمكنه الإلحاح. وأحسب أن الفرق واضح بين الحماسة البصيرة للرأي حين يصل إليه المرء بعد بحث وتحر وتحقيق، وبين التعصب الأهوج للفكرة التي يدخل المرء بها في بحثه ابتداءً. فالحماسة الأولى من أمارات الحياة السليمة في البحث والباحث، والتعصب الثاني من علامات عجز الفكر وضيق الأفق. ومن هنا أرجو ألا أبعد عن الحق حين أقول: إن كل رأي في هذا الكتاب قد قامت من بين يديه وفرة من النصوص قادت إليه وانتهت به؛ وأن النص هو الذي وجه البحث إلى ما فيه من آراء، وليست الآراء هي التي وجهت البحث إلى النصوص: يجتلبها، ويقتنصها، ويستكثر منها، ويقسرها قسرًا لما يريد.
1 / 4
والباحث في العصر الجاهلي يلقي عناء كبيرًا من مصادر بحثه، وذلك لأن الحديث عن الجاهلية -في المصادر العربية- لم يكن يُقصد لذاته: فتسبر أغواره ويلم شتاته؛ وإنما كان يقصد لغيره من موضوعات العصور الإسلامية التي كان المؤلفون يكتبون فيها، فيستطردون للحديث عن الجاهلية: للتمثيل والاستشهاد، أو للمقابلة والموازنة، أو للوعظ والإنذار، أو للتمهيد بين يدي حديثهم الأصيل تمهيدًا موجزًا يدخلون منه إلى الحديث عما يقصدون. فيكاد يكون حديثهم عن الجاهلية حديثًا عابرًا، منثورًا نثرًا متباعدًا في تضاعيف كتبهم وثنايا رسائلهم. ومن هنا كان لا بد للباحث في العصر الجاهلي من أن يقرأ الكتاب العربي قراءة متمعنة دقيقة، يجرده فيها جردًا كاملًا من عنوانه حتى ختامه، لا يغنيه عن ذلك تبويب الكتاب، ولا هذه الفهارس الدقيقة الشاملة التي يصنعها المحدثون للطبعات الحديثة من تلك الكتب القديمة. وقد يقرأ الدارس الكتاب ثم لا يخرج منه بشيء، أو يخرج بخبر أو خبرين لعله كان قد استخرجهما من كتاب غيره، فلا يضيفان إليه جديدًا.
ولا يقف بحثنا عند حدود الجاهلية، وإنما يتجاوزها حتى يشمل القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وذلك لأننا ندرس الشعر الجاهلي في الجاهلية نفسها، ثم نتتبعه خلال هذه القرون حتى نصل به إلى مرحلة التدوين العلمي عند رجال الطبقة الأولى من الرواة العلماء، ثم تلاميذهم من رجال الطبقة الثانية والثالثة.
ومن أجل ذلك اقتضى هذا البحث دراسة تلك القرون، والرجوع إلى مصادرها، بالإضافة إلى دراسة الجاهلية نفسها.
وقد ألحقنا بآخر هذا البحث جريدة مفصلة فيها أسماء المؤلفين مرتبةً على حروف المعجم، وسنوات وفياتهم، وأسماء كتبهم وطبعاتها التي رجعنا إليها.
أما أساتذتي الدكتور شوقي ضيف المشرف على هذا البحث، والدكتور إبراهيم سلامة، والأستاذ مصطفى السقا، والدكتور عبد اللطيف حمزة، والأستاذ السباعي بيومي، أعضاء لجنة المناقشة - فلهم الشكر صادقًا كفاء
1 / 5
ما أنفقوا من وقت في قراءة هذا البحث، ومن جهد في مناقشة صاحبه، وكفاء ما حبوني به من رعاية وتشجيع، وأسبغوه على البحث من ثناء وتقدير.
أما أخي الصديق الأستاذ محمود محمد شاكر فإن فضله لا يقتصر على هذا البحث وحده، فلطالما اغترفت من علمه، وأفدت من مكتبته، وانتفعت بنصحه وتوجيهه؛ وما أكثر ما كان ينفق من وقت يناقش معي فيه بعض وجوه الرأي ويبصرني بما لم أكن لأصل إليه لولا غزير علمه وسديد نصحه.
ولقد كان له أكبر الفضل -بإخائه وعونه الكريم- في حثِّي على مواصلة العمل، وفي إخراج هذا البحث في كتاب يتداوله القراء.
وبعد:
فإن هذا البحث -كما ذكرت- هو الخطوة الأولى في سبيل دراسة هذا الموضوع، وأرجو أن تتلوها خطوات، تكمل ما فيه من نقص، وتقوم ما قد يكون فيه من عوج، وحسب هذا البحث أنه شق الطريق، وألقى فيها من المعالم ما يهدي السالكين، وحسبي منه أني أخلصت النية، وبذلت أقصى الجهد. ومن الله الهداية وبه التوفيق.
ناصر الدين الأسد
1 / 6
فهرست الموضوعات:
مقدمة:
فهرست الموضوعات:
تمهيد: مجتمعات العرب في الجاهلية وتفاوتها في الحضارة
عوامل الوحدة والتنوع في الوطن العربي - القبيلة العربية - الأعراب - الطبقات الاجتماعية في الجاهلية - الحضارة العربية الجاهلية: معناها، عوامل إنشائها، آثارها، سبل اتصال العرب بغيرهم من الأمم.... ١-١٩
الباب الأول
الكتابة في العصر الجاهلي
الفصل الأول: انتشار الكتابة بين العرب في العصر الجاهلي نشأة الخط العربي وتطوره - النقط والشكل والإعجام - تعليم الكتابة في الجاهلية وشيوعها - تجهيل الجاهلية - معنى الأميين - معرفة الجاهليين بضروب من العلم - المدارس والمعلمون في الجاهلية - كتاب رسول الله - الكامل في الجاهلية - تعلم اللغات الأخرى - نساء كاتبات في الجاهلية - آيات وأحاديث عن الكتابة..... ٢٣-٥٨
الفصل الثاني: موضوعات الكتابة وأدواتها
موضوعات الكتابة في الجاهلية: معنى شيوع الكتابة بين عرب الجاهلية - كتابة الكتب الدينية - العهود والمواثيق
1 / 7
والأحلاف - صكوك الدين - الرسائل - مكاتبة الرقيق - موضوعات أخرى فرعية - أدوات الكتابة في الجاهلية:
الجلد، المهارق، أنواع النبات، العظام، الحجارة، الورق - أسماء المواد التي يكتب عليها - المواد التي يكتب بها: القلم، الدواة والمداد - وصف الخط في الجاهلية ٥٩-١٠٣
الباب الثاني
كتابة الشعر الجاهلي وتدوينه
الفصل الأول: تقييد الشعر الجاهلي
التقييد والتدوين - أدلة عقلية استنباطية على تقييد الشعر الجاهلي: قيمة الشعر للقبيلة وللممدوحين، قيمته للشاعر نفسه، بعض الشعراء الكتاب، الشعر الحولي المحكك، ذكر الكتابة وصورها وأدواتها في الشعر الجاهلي - أدلة صريحة مباشرة: نصوص وأخبار ... ١٠٧-١٣٣
الفصل الثاني: تدوين الشعر الجاهلي
نشأة التدوين العام عند العرب وأوائل المؤلفات - كثرة الصحف وشيوعها - الصورة اللغوية للتدوين في صدر الإسلام - تدوين الحديث والفقه - تدوين التفسير - تدوين المغازي والسيرة - تدوين الشعر الجاهلي ضمن هذه الموضوعات - إفراد الشعر الجاهلي بالتدوين: أبو عمرو بن العلاء، حماد الراوية؛ نصوص على تدوين الشعر الجاهلي، معنى كتاب القبيلة، كتب الحكم والأمثال،
1 / 8
المعلقات: مناقشة عامة - اعتماد الطبقة الأولى من الرواة العلماء على مدونات الشعر الجاهلي وأخذهم منها: نصوص، التصحيف معناه ودلالته - سبب إغفال هؤلاء العلماء ذكر الصحف المدونة التي أخذوا منها - معنى الرواية - معنى السماع...... ١٣٤-١٨٤
الباب الثالث
الرواية والسماع
الفصل الأولى: اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني معنى الرواية والراوية وتطورهما اللغوي - عمل الرواة، تدوينهم الشعر - تعقيب ابن سلام على قول لعمر بن الخطاب: مناقشة عامة - رواية الشعر الجاهلي زمن بني أمية - روايته زمن رسول الله والخلفاء الراشدين - روايته في العصر الجاهلي نفسه - النسابون ورواية الشعر الجاهلي. ١٨٨-٢٢١
الفصل الثاني: طبقات الرواة
الشعراء الرواة - رواة القبيلة - رواة الشاعر - رواة مصلحون للشعر - رواة وضاعون - رواة علماء: الفرق بين الراوية والراوية العالم..... ٢٢٢-٢٥٤
الفصل الثالث: الإسناد في الرواية الأدبية
الإسناد بين الحديث والأدب - أخبار ذات إسناد متصل أو منقطع إلى الجاهلية - المعمرون وإسناد الرواية - إغفال الأسانيد - معنى الإسناد في الرواية الأدبية.. ٢٥٥-٢٨٣
1 / 9
المعلقات: مناقشة عامة - اعتماد الطبقة الأولى من الرواة العلماء على مدونات الشعر الجاهلي وأخذهم منها: نصوص، التصحيف معناه ودلالته - سبب إغفال هؤلاء العلماء ذكر الصحف المدونة التي أخذوا منها - معنى الرواية - معنى السماع...... ١٣٤-١٨٤
الباب الثالث
الرواية والسماع
الفصل الأولى: اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني معنى الرواية والراوية وتطورهما اللغوي - عمل الرواة، تدوينهم الشعر - تعقيب ابن سلام على قول لعمر بن الخطاب: مناقشة عامة - رواية الشعر الجاهلي زمن بني أمية - روايته زمن رسول الله والخلفاء الراشدين - روايته في العصر الجاهلي نفسه - النسابون ورواية الشعر الجاهلي. ١٨٨-٢٢١
الفصل الثاني: طبقات الرواة
الشعراء الرواة - رواة القبيلة - رواة الشاعر - رواة مصلحون للشعر - رواة وضاعون - رواة علماء: الفرق بين الراوية والراوية العالم..... ٢٢٢-٢٥٤
الفصل الثالث: الإسناد في الرواية الأدبية
الإسناد بين الحديث والأدب - أخبار ذات إسناد متصل أو منقطع إلى الجاهلية - المعمرون وإسناد الرواية - إغفال الأسانيد - معنى الإسناد في الرواية الأدبية.. ٢٥٥-٢٨٣
1 / 10
الباب الرابع
الشك في الشعر الجاهلي
"الوضع والنحل"
الفصل الأول: المشكلة الهومرية
دراسة مقارنة: المشكلة الهومرية - وجوه الشبه بين الشعر الجاهلي والشعر الهومري - ناظم الإلياذة والأوديسة - وسيلة حفظ الشعر الهومري - المدارس التي عنيت بهومر. ٢٨٧-٣٢٠
الفصل الثاني: وضع الشعر الجاهلي ونحله - عند الأقدمين الوضع والنحل والانتحال ظواهر أدبية عامة - في النسب - في الحديث - في الشعر الجاهلي منذ الجاهلية وصدر الإسلام - تنبه العلماء القدامى للوضع والنحل: نصوص وأخبار - ابن هشام في السيرة - ابن سلام في طبقات فحول الشعراء...... ٣٢١-٣٥١
الفصل الثالث: النحل والوضع في الشعر الجاهلي - آراء المستشرقين
مرجوليوث: عرض مفصل لآرائه واستدلالاته - شارلس جيمس ليال وردوده على مرجوليوث - جورجيو ليفى دلافيدا ورأيه في الموضوع.... ٣٥٢-٣٧٦
1 / 11
الفصل الرابع: النحل والوضع في الشعر الجاهلي - آراء العرب المحدثين
مصطفى صادق الرافعي - الدكتور طه حسين: عرض مفصل لآرائه واستدلالاته - الذين ألفوا كتبًا في الرد على الدكتور طه حسين: عرض مفصل لهذه الردود. ٣٧٧-٤٢٨
الفصل الخامس: توثيق الرواة وتضعيفهم
مدرستا البصرة والكوفة: في الحديث والفقه، في اللغة، في الشعر - منهجا المدرستين ومصادرهما، والخلاف بينهما - الروايات والأخبار التي توثق حمادًا الراوية وخلفًا الأحمر والتي تضعفهما: عرضها ومناقشتها - الأصمعي - ضروب الشعر الجاهلي من حيث الصحة والنحل - مقاييس العلماء القدامى للحكم على الشعر الجاهلي - معنى النحل.. ٤٢٩-٤٧٨
الباب الخامس
دواوين الشعر الجاهلي
الفصل الأول: الدواوين المفردة
بحث عام - ديوان امرئ القيس: أصول رواياته وأنواعها، نسخه المختلفة، قيمة هذه الروايات والنسخ - مقياس حديث لمعرفة الشعر الصحيح من غيره - قصائد امرئ القيس ومقطعاته من رواية الأصمعي ومقارنتها بالروايات الأخرى - رواية المفضل - ديوان زهير بن أبي سلمى: أصول رواياته وأنواعها، نسخه المختلفة، قيمة هذه
1 / 12
الروايات والنسخ - قصائده ومقطعاته من رواية الأصمعي ومقارنتها بالروايات الأخرى.... ٤٨١-٥٤٢
الفصل الثاني: دواوين القبائل
بحث عام: دواوين القبائل التي ذكرتها المصادر العربية وصانعوها، وما بقي منها، معنى ديوان القبيلة، متى بدأ تدوين دواوين القبائل - ديوان هذيل: عدد من فيه من الشعراء وأبيات الشعر ومدى النقص فيه، أصول رواياته وأنواعها، طبعاته ونسخها، قيمة هذه الروايات والنسخ ٥٤٣-٥٧٢
الفصل الثالث: المختارات
المفضليات: روايتها، تحقيق عدد قصائدها - الأصمعيات روايتها والإسناد فيها، تحقيق ما ذكره ابن النديم عنها - حماسة أبي تمام: مصادرها، روايتها - جمهورة أشعار العرب: نسبتها، التعريف بصاحبها، روايتها - قيمة كتب المختارات في تاريخ الرواية الأدبية ... ٥٧٣-٥٩١
الفصل الرابع: الشعر الجاهلي في غير الدواوين
كتب النحو: كتاب سيبويه - كتب اللغة: إصلاح المنطق وتهذيب الألفاظ - كتب السيرة والتاريخ: ابن هشام وسيرة ابن إسحاق - كتب الأدب العامة: البيان والتبيين، الحيوان - رواية الشعر الجاهلي وإسنادها في هذه الكتب - قيمة الشعر الجاهلي المتضمن فيها. ٥٩٢-٦١٤
الخاتمة: خلاصة البحث ٦١٧
المصادر والمراجع ٦٣٧
الفهارس العامة ٦٥٣
1 / 13
تمهيد: مجتمعات العرب في الجاهلية وتفاوتها في الحضارة
-١-
موطن العرب، في جاهليتهم، يمتد في رقعة من الأرض واسعة١، ذات بقاع متباينة، تختلف بيئاتها الطبيعية اختلافًا يكاد يجعل منها مواطن متعددة وإن كانت، مع ذلك، وطنًا واحدًا متماسكًا. فما بين البحر الهندي في أقصى الجنوب إلى ما بعد دمشق في أقصى الشمال، وما بين بحر فارس ونهري دجلة والفرات في الشرق إلى البحر الأحمر بل إلى نهر النيل في الغرب٢، كانت تسيح
_________
١ "ليس في خريطة الأرض شبه جزيرة تضاهيها حجمًا، فهي أكبر من شبه جزيرة الهند، ومساحتها ثمانية أضعاف الجزر البريطانية، وأربعة أضعاف فرنسا ... " تاريخ العرب "مطول" لحتى وجرجي وجبور ١: ١٥. "وهي تعادل ربع أوربا أو ثلث الولايات المتحدة مساحة ... "
المرجع السابق ص١.
٢ تحديد البلاد التي سكنها العرب ليس بالأمر اليسير المتفق عليه، وإنما يحتاج إلى تحديد المراد بلفظ العرب أولًا وإلى تحديد الزمان الذي تدور فيه أحداث البحث ثانيًا:
أ- كان الفراعنة والآشوريون والفينيقيون يقصدون بالعرب أهل البادية في البقعة الممتدة بين الفرات في الشرق والنيل في الغرب، ويدخلون فيها -عدا بادية العراق والشام وشبه جزيرة سيناء- صحراء مصر الشرقية ما بين وادي النيل والبحر الأحمر. وقد كانت بلاد العرب في عصر جيولوجي مبكر متصلة في جنوبها عند اليمن بإفريقية عدا اتصالها بها في شمالها، فكان البحر الأحمر آنذاك بحيرة داخلية، "انظر: ١١
De lacy o'Leary، Arabia Before Mohammad، ١٩٢٧، p".
وكان بذلك نهر النيل هو الحد الغربي لبلاد العرب.
ب- وكان اليونان القدماء يعدون جنوبي جزيرة العرب بين خليج فارس والبحر الأحمر من الحبشة، فيجعلون الحبشة واليمن وضفاف خليج فارس إقليمًا واحدًا يسمونه "إثيوبيا آسيا". ثم أطلق اليونان في عهد البطالسة على الجزيرة كلها اسم بلاد العرب، وقسموها ثلاثة أقسام: البادية =
1 / 1
هذه الأمة العريقة: في الأغوار والأنجاد، وفي السهول وفوق قنن الجبال، وفي أجواف الصحاري وعلى سواحل البحار، وكان لا بد لهذه الرقعة المترامية الأطراف، المتباعدة الأقطار، من أن يختلف مناخها كما اختلفت طبيعة أرضها: ففيها شواظ من لهيب الحر يشوي الوجوه، وسموم تلوح الأبدان؛ وفيها ثلوج تكلل الجبال، وصقيع يجمد الدم في أطراف الأحياء ويقفع الجلود١؛ وفيها ما بين
_________
= Arabia Deserta، والحجرية Arabia petra، والسعيدة. Arabia felix
جـ- وأما جغرافيو العرب فهم يقصدون ببلاد العرب الجزيرة العربية كلها، ويدخلون فيها بادية سيناء وبلاد الشام جميعها وجزءًا من العراق؛ فيحددها الهمداني بقوله: "جنوبيها اليمن، وشماليها الشام، وغربيها شرم أيلة وما طردته من السواحل إلى القلزم وفسطاط مصر، وشرقيها عمان إلى البحرين وكاظمة والبصرة، وموسطها الحجاز وأرض نجد والعروض. وتسمى جزيرة العرب؛ لأن اللسان العربي في كلها شائع وإن تفاضل ... " "صفة جزيرة العرب ص١". ويفصل يقوت القول عند كلامه على تحديدها تفصيلًا نذكر مبتدأه ومنتهاه قال: "قد اختلف في تحديدها، وأحسن ما قيل فيها ما ذكره أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب مسندًا إلى ابن عباس، قال: اقتسمت العرب جزيرتها على خمسة أقسام؛ قال: وإنما سميت بلاد العرب جزيرة لإحاطة الأنهار والبحار بها من جميع أقطارها وأطرافها، فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر. وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين، ثم انحط على أطراف الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر في ناحية البصرة والأبلة ... ثم ساحل الطور وخليج أيلة وساحل راية حتى بلغ قلزم مصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلًا معارضًا للبحر معه حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها وأتى صور ساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق" "معجم البلدان، جزيرة العرب".
وبلاد العرب في هذا البحث هي الجزيرة العربية التي يحدها من الغرب البحر الأحمر، ومن الجنوب البحر العربي، ومن الشرق خليج فارس، وتمتد في الشمال حتى تشمل هذه البقاع التي قامت فيها دولات عربية كالمناذرة في الحيرة، والغساسنة في الشام ومن قبلهم الأنباط في بترا وتدمر.
١ يبلغ ارتفاع أعالي الجبال في اليمن أكثر من اثني عشر ألف قدم، ونحو عشرة آلاف قدم في كل من مدين وجبال السراة في الحجاز والجبل الأخضر في عمان. بل إن في نجد -وهي هضبة متوسط ارتفاعها ٢٥٠٠ قدم- جبلًا يبلغ ارتفاعه ٥٥٥٠ قدمًا وهو جبل أجأ "انظر تاريخ العرب، مطول ١: ١٦". وقد ذكر عرام بن الأصبغ السلمي في كتابه "أسماء جبال تهامة وسكانها" بعض هذه الجبال الشاهقة، وأشار إلى ارتفاعها وذهابها في السماء، من ذلك قوله عن جبل ورقان: "جبل أسود عظيم كأعظم ما يكون من الجبال" "ص١٥" وقال عن جبل آرة "جبل من أشمخ ما يكون" "ص١٩". وقال عن جبل شمنصير: "جبل ململم لم يعله أحد قط ولا درى ما على ذروته" "ص٢٦". وقال عن جبلي يسوم وفرقد "لا يكاد أحد يرتقيهما إلا بعد جهد" "ص٤١" وقد كان الماء يجمد على بعض قمم الجبال وذلك مثل جبل صنعاء وجبل غزوان بجوار الطائف "انظر الهمداني: الإكليل ص٩، والإصطخري: مسالك الممالك ص١٩". "ومكثوا سنة جرداء، وسموها سنة الجمود لجمود الرياح فيها" "الهمداني: صفة جزيرة العرب ص٢١٤". وكانت الثلوج تسقط على جبل حضور الشيخ في اليمن في شتاء كل عام تقريبًا، وأما الصقيع فهو أكثر من ذلك شيوعًا "انظر تاريخ العرب، مطول ١: ٢١".
1 / 2
هذا وذاك مناخ معتدل فيه دفء لا يغلو فيصبح حرًّا، ولا يقصر فيصبح بردًا ... وفيها مع ذلك أمطار غزار تناسب أنهارًا وجداول١، تقوم على حفافيها مدن
_________
١ كانت الأمطار في جزيرة العرب في العصر الجاهلي غزيرة غزارة لا تعرفها الجزيرة الآن، ولغزارة الأمطار في الجاهلية آيات: أولاها -وهي أهمها في نظرنا- ما يحفل به الشعر الجاهلي من وصف السيول الدافقة، وذلك أكثر من أن يشار إليه. وثانيتها: كثرة الأودية ومسايل المياه التي تشاهد في الجزيرة -ليومنا هذا- غائرة غائضة. وقد عقد الهمداني فصلًا عن أودية السراة ومسايل المياه فيها في صفة جزيرة العرب "من ص٧١ إلى ٧٨" حيث يفصل القول فيها تفصيلًا ويعد منها شيئًا كثيرًا، وانظر كذلك ص٢١٤ وما بعدها. وثالثة هذه الآيات ما يذهب إليه بعض العلماء في قولهم: "وكانت الرياح الغربية التي تروي غيومها الآن مرتفعات سورية وفلسطين تصل في الأزمنة الغابرة إلى الجزيرة قبل أن تفقد هذه الغيوم رطوبتها" "تاريخ العرب، مطول ١: ١٥".
والعلماء هؤلاء يشيرون إلى أن ذلك كان في عصور جيولوجية سحيقة في القدم، ولكن ما ذكرناه من أمر الشعر الجاهلي دال على أن ذلك كان مألوفًا في العصر الجاهلي الأخير. ومما يؤيد ذلك أن ديودوروس الصقلي -في القرن الأول قبل الميلاد- يذكر أن بلاد العرب التي تقع في الشمال من العربية السعيدة وتمتد حتى تجاور سورية "يتخللها كثير من الأنهار ويهطل عليها مطر غزير في الصيف فيكون لسكانها بذلك موسمان زراعيان في السنة الواحدة" "انظر: Diodorus Siculus، London، Book ٢، p.٥٤"
وقد ذكر عرام السلمي أسماء كثير من القرى الزراعية وأنواع فواكهها وثمارها وأشار إلى كثرة مائها، من ذلك قوله عن جبلي رضوى وعزور: "في الجبلين جميعًا مياه أوشال، والوشل: ماء يخرج من شاهقة لا يطورها أحد ولا يعرف منفجرها.. ويصب الجبلان في وادي غيقة، وغيقة تصب في البحر، ولها مسك: وهي مواضع تمسك الماء، واحدها مساك" "ص٦" ويذكر "ينبع" فيقول: "قرية كبيرة غناء ... فيها عيون عذاب غزيرة الماء وواديها يليل يصب في غيقة ... وفي يليل هذه عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماء ... " "ص٨، ٩" ويذكر "الصفراء" فيقول: "قرية كثيرة النخل والمزارع وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع" "ص٨" ويذكر قرية السوارقية وفواكهها فيقول: "قرية غناء كثيرة الأهل.. ولهم مزارع ونخيل كثيرة وفواكه وموز وتين ورمان وعنب وسفرجل وخوخ.." "ص٦٥".
وهو يذكر كثرة المطر فيقول: "وغدير خم هذا.. لا يفارقه ماء أبدًا من ماء المطر" "ص٣٣" ويذكر الآبار التي في بعض الجبال فيقول عن مائها إنه "ماء سماء لا تنقطع هذه المياه لكثرة ما يجتمع فيها" "ص٥٤".
بل إن هذه الأمطار ما زالت إلى يومنا هذا تهطل على الصحاري نفسها -بله السهول والجبال- كصحاري النفود والربع الخالي حتى إنها لتغطيها "ببساط من الخضرة يحولها إلى جنة للإبل والأغنام"، "وتغنى الأرض بالمراعي" "انظر تاريخ العرب، مطول ١: ١٧" وانظر كذلك ص٢٠، ٢١ ففيهما وصف للخصب والخضرة في هضبة نجد وفي الحجاز وعير واليمن في أيامنا هذه.
1 / 3
وقرى، وتهتز الأرض فتخرج من ثمرها وبقلها وفاكهتها ما شاء لها الله؛ ويكون من كل ذلك تلك الحضارة الزراعية التي عرفها التاريخ في العرب والأمم الأخرى ذات طابع واضح ومعالم مميزة. وقد تضن الطبيعة بمائها فلا تكاد ترسله إلا بمقدار، ثم تمسك إمساك الشحيح يندم على ما بسط من يده؛ فيكون من هذا الرذاذ الهين اللين سهوب ومراع ينتجعها قطان الصحاري بأنعامهم يلتمسون الكلأ، ثم لا تكاد تطمئن بهم النوى حتى تقتلعهم اقتلاعًا، وتقذفهم إلى مرعى جديد يكون أوفر حظًّا وأوفى نصيبًا. فتنشأ من ذلك طبقة اجتماعية عرفها التاريخ كذلك في سيره الطويل بطابعها الواضح ومعالمها المميزة.
وهذه الصحراء العربية يضيق جوفها عن أن يمد لقطانها من أسباب العيش غير ما كان يعيش عليه رجل الغابة الأول: يتنكب قوسه ويعلق كنانته، أو يحمل رمحه ويتقلد سيفه، ثم يضرب في الأرض باحثًا عن قوته بين حيوان الصحراء، وقد يؤوب بصيد سمين وقد يكون هو الصيد، أو قد يفوته ما أمل، فلا يجد له بدًّا من أن يجعل هدفه أخًا له يفتك به ويجرده مما يجوز. فتكون من ذلك طبقة اجتماعية ثالثة هي أولى الجماعات التي عرفها التاريخ منذ أن وجد الإنسان.
ولقد كانت هذه البلاد في مكان سوى بين أمم العالم، يتوسط الشرق والغرب، ويصل الجنوب بالشمال، فلا بد إذن من أن تكون طريقًا تجتازه التجارة من الشرق والجنوب إلى الشمال والغرب. وكان لا بد أن يكون لهذه التجارة قوامون يبذلون من مالهم ومن جهدهم في شرائها ونقلها وحراستها ثم بيعها ما يضطرهم إلى تنظيم أمرها وتهيئة وسائلها، فنشأت من ذلك تجارتان: تجارة داخلية محلية،
1 / 4
وتجارة خارجية عالمية. وكان لا مفر من أن تقوم طبقة اجتماعية رابعة بجانب الطبقات الثلاث المتقدمة.
وكانت ثمة حرف صغير، وصناعات كثيرة، تتناول من الأمر دقيقها وجليلها، وكانت بعض المدن تختص بضرب من هذه الصناعات دون غيره، فتشتهر به، ويؤمها الناس يتعلمون هذه الصناعة من أهلها، ثم يعودون إلى موطنهم بطريف لم يكونوا يعهدونه١. وكان لا بد من أن يقوم على هذه الحرف والصناعات رجال مختصون: من العرب الخلص، ومن الرقيق المجتلب، فكانت منهم جميعًا طبقة اجتماعية خامسة، ذات طور حضاري يختلف عن الطبقات السابقة.
ولعل آخر هذه الطبقات هؤلاء السادة المترفون من الملوك والأمراء والحكام والأثرياء ممن كان يجتمع لهم السلطان والمال.
-٢-
والقبيلة عند العرب في حاجة إلى دراسة مستفيضة خاصة، لا يتسع لها مثل هذا العرض التمهيدي، وبحسبنا أن نشير إلى أن الشائع المتعارف أن القبيلة كانت في الجاهلية جماعات من الأعراب البدائيين: يسكنون الخيام ويقطنون الصحراء، لا هم لهم إلا الغزو وانتجاع الكلإ. وقد يصدق ذلك على بعض تلك القبائل، أو على أقسام منها. غير أن الذي لا يتطرق إليه ريب، فيما نرى، أن قبائل كثيرة كان منها من يسكن في الحواضر والقرى مستقرًّا ثابتًا: فالأوس والخزرج
_________
١ من أمثلة ذلك ذهاب عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من الطائف إلى جرش في اليمن ليتعلما بعض الصناعات الحربية. قال ابن إسحاق: "ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينها، وصنعوا الصنائع للقتال. ولم يشهد حنينًا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة، كان بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور" "السيرة ٤: ١٢١"
1 / 5
كانتا تسكنان المدينة، وثقيف كانت تسكن الطائف، وقريش البطاح كانت تسكن بطحاء مكة، وتغلب وبكر وإياد كان بعضها حاضرة تسكن الجزيرة وما بين النهرين، وعبد القيس كان منها حاضرة تسكن عمان والبحرين، وغيرها وغيرها من القبائل التي كانت تستوطن قرى اليمامة وقرى اليمن. فهذه وأشباهها من قبائل العرب كان أكثرها أهل مدر، مستقرة في موطنها، لا يعجلها التنقل والارتياد عن أن تقيم لنفسها من حولها حياة مدنية لا تختلف في شيء عما نعرفه من حياة سكان المدن في بلاد العرب لذلك العهد. وما أوضح ما رُوِي لنا عن أحد أحلاف الجاهلية من أن ذلك الحلف كان "في أهل الوبر في الجاهلية فلما جاء الإسلام، وكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت في الجاهلية في هذا الحلف، قال: وذلك أنهم أهل مدر؛ فدخلوا في الإسلام مع أخيهم عجل فصاروا لهزمة"١.
ونص آخر لا يقل وضوحًا وإبانة، قالوا٢: "قريش الأباطح أشرف وأكرم من قريش الظواهر؛ لأن البطحاويين من قريش حاضرة وهم قطان الحرم، والظواهر أعراب بادية، وضاحية كل بلد ناحيتها البارزة".
فكثيرًا ما نجد إذن قبيلة واحدة تحيا حياتين مختلفتين: كان قسم منها يتحضر ويستقر ويسكن المدر، على حين يبقى قسم منها باديًا في أهل الوبر، في أطراف القرى والمدن. وقد كان هذا شأن القبيلة في الجاهلية والإسلام معًا؛ فمن ذلك: جهينة، كان قسم منها يسكن في الوبر دون المدر في نواحي جبلي رضوى وعزور٣ على حين يسكن قسم آخر منها في المدر في ينبع "وهي قرية كبيرة غناء ... فيها عيون عذاب غزيرة الماء..٤ ويسكن قسم ثالث منها في
_________
١ النقائض: ٧٢٨.
٢ اللسان "ضحا".
٣ عرام بن الأصبغ السلمي، كتاب أسماء جبال تهامة وسكانها، ص٧.
٤ المصدر السابق: ٨.
1 / 6
الصفراء "قرية كثيرة النخل والمزارع وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع"١
ومثال آخر: نَهْد، كانت كجهينة تسكن في الوبر دون المدر في جبلي رضوى وعزور٢، وكان قسم منها يسكن في قرية الصفراء.
ومثل ثالث: مزينة، كان قسم منها يسكن في جبل ورقان٣، وقسم آخر في جبلي القدسين٤، وقسم ثالث في جبلي نهبان٤، على حين يسكن قسم منها في قرية الفرع "وهي قرية غناء كبيرة"٥.
ومثل رابع: هذيل، كانت أقسام منها تسكن ضرعاء وهي "قرية بها قصور ومنبر وحصون"٦، وقسم يسكن في قريتي رهاط والحديبية٧، وقسم يسكن في مر الظهران وهي "قرية في واديها عيون كثيرة ونخيل وجميز"، إلى آخر ما شئت من الأمثلة.
وإذا كان يحلو لبعض الباحثين أن يجعلوا "لأهل الكتاب" في الجاهلية سهمًا في الحضارة أوفر من سهام "الأميين" -ولعلهم على شيء من الحق في ذلك- فمن يكون أهل الكتاب أولئك؟ وكيف يغرب عنا أن نصارى بلاد العرب ويهودها لم يكونوا -ما عدا قلة قليلة من الوافدين- غير قبائل قد تنصرت وتهودت، قبائل كاملة بقضها وقضيضها٨.
_________
١ عرام بن الأصبغ: ٨
٢ المصدر السابق: ٧
٣ المصدر السابق: ١٦
٤ المصدر السابق: ١٨
٥ المصدر السابق: ١٩
٦ المصدر السابق: ٢٥، ٢٦
٧ المصدر السابق: ٢٧، ٢٨
٨ ابن حزم، الجمهرة: ٤٥٧، ٤٥٨ "فيقال إن إيادًا كلها، وربيعة كلها، وبكر، وتغلب، والنمر، وعبد القيس كلهم نصارى، وكذلك غسان، وبنو الحارث بن كعب بنجران، وطيئ، وتنوخ، وكثير من كلب، وكل من سكن الحيرة من تميم ولحم وغيرهم وكانت حمير يهودًا، وكثير من كندة، وذكر أبو عبيد "معجم ما استعجم ١: ٢٩" أن قبيلة من بلى نزلت أرضًا بين تيماء والمدينة "فأبت يهود أن يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم، فتهودوا فأدخلوهم المدينة ... ".
1 / 7