وفي اليوم الثامن والعشرين من أبريل دخل سوفاروف مدينة ميلانو بعد أن انسحب منها مورو إلى ما وراء نهر التيزان، ثم لصق سوفاروف على جدران المدينة الخطبة الآتية ترجمة نصها:
قد أقبل جيش الإمبراطور الرسولي والقدسي إلى هنا، وما غرضه من الحرب إلا تأييد سلطة الدين ورؤسائه في إيتاليا، ورد حكومتها القديمة إليها.
فاتحدوا معنا - أيها الشعوب - باسم الرب والدين؛ لأننا حضرنا بجيش من ميلانو وجيش من بليزنسه لخلاصكم.
وقد وقعت بعد ذلك جملة وقائع كان سوفاروف فيها المنتصر، ولكنها أضعفت جيوشه وأنهكت قواها، وبينما القائد الروسي مستعد لمتابعة السير حسب الأوامر التي لديه إذ وافاه خطاب من المجلس الأعلى بفينا يقول: إن الدول المتحالفة قررت الإغارة على أرض فرنسا، ورسمت لكل قائد خطة سيره، وهي تأمر سوفاروف أن يقصد فرنسا عن طريق سويسرا. وكان مع سوفاروف 30 ألف مقاتل روسي؛ فانضم إليه 30 ألفا أخرى من الجيش الاحتياطي تحت قيادة كوساكوف، ونحو 30 ألفا من النمساويين تحت قيادة الجنرال هوتز، ونحو 6 آلاف من مهاجري الفرنساويين الثائرين على حكومتهم تحت قيادة البرنس ده كوندي، فبلغ جيش سوفاروف بذلك نحو خمسة وتسعين ألف مقاتل.
وقد أصيب فيدور بجرح في إحدى الوقائع، فأنعم عليه جزاء شجاعته بوسام آخر، ورقي إلى رتبة يوزباشي، فعجل السرور شفاءه حتى تمكن من اللحاق بالجيش في 13 سبتمبر لما تحرك قاصدا جبال سويسرا.
الفصل الرابع
كان جيش الروسيين ومحالفيهم بخير ما دام في سهول إيتاليا الجميلة تحت ظل سمائها الصافية الزمردية، فلما تركت الجنود تلك السهول الخصيبة والبلاد الرحيبة، وأمت الجبال والمضايق فتجلت أمامها القمم الشامخة متوجة بالثلوج الأبدية، خمدت حميتها وضعفت عزيمتها واستولى على أفئدتها الخوف من مستقبل مملوء بالمخاطر والوحشة، فتآمرت الجنود فيما بينها على العصيان، ولم تمض برهة حتى أجمعت الصفوف على القهقرى، ووقفت طليعة الجيش مصرحة بأنها لا تقوى على المسير، ولا تتقدم خطوة إلى الأمام، وكان فيدور قائد سرية في الطليعة؛ فبذل جهده في نصحها والتماس ردها إلى الطاعة، وسار في مقدمتها؛ ليشجعها على المسير، فألقى جنوده أسلحتهم على الأرض ورقدوا بجانبها. وفي تلك الساعة طرقت المسامع غوغاء مقبلة من مؤخر الجيش، وإذا هي أصوات الجنود موجهة بالتضجر والتأفف إلى الجنرال سوفاروف، وقد تقدم بنفسه ليرى أسباب الخلاف، فلما وصل إلى الطليعة ارتفع ضجيج الجنود، وانقلب تأففهم صخبا وسبابا، فقام فيهم سوفاروف خطيبا، وحاول استمالتهم إليه بقوة بيانه التي طالما أتت بالمدهشات إبان المعارك، فتغلبت أصوات الجنود على صوته وارتفع من جميع أركان الجيش صوت يقول: «القهقرى، القهقرى.» فأحضر سوفاروف لديه من رآهم أشد تمردا في الجنود، وأمر بضربهم على مشهد من الجيش، فلم تكبح تلك الوسيلة جماح الثائرين وارتفع الضجيج، فرأى سوفاروف أنه إن لم يلجأ إلى واسطة قوية المفعول تنصره على جنوده؛ ذهبت آماله أدراج الرياح وآب بالخسران بعد أن كاد يطرق باب النجاح، فتقدم نحو فيدور وأمره بصوت رهيب قائلا: أيها اليوزباشي، دع هؤلاء الجبناء جانبا، وخذ ثمانية من صف الضباط واصنع هنا حفرة في الأرض.
فنظر فيدور إلى الجنرال مندهشا كأنه يسأله سبب هذا الأمر الغريب، فقال له سوفاروف: افعل ما أمرتك به.
فلم يسع فيدور إلا الطاعة، وابتدأ صف الضباط الثمانية في العمل، فلم تمض عشر دقائق حتى تم إعداد الحفرة، وقد بلغ العجب من الجيش أقصاه، واجتمعت الجنود نصف دائرة حول القائد العام منتشرة على سفوح الجبال ومنحدراتها؛ لترى خاتمة هذا الفصل العجيب، وعندئذ ترجل سوفاروف عن جواده وأمسك بحسامه فقصمه وألقاه في الحفرة، ثم مزق الرمانات عن أكتافه فألقاها مع حسامه، ثم انتزع وساماته عن صدره فأردفها بها، ولما تجرد كذلك عن شاراته وملابسه نزل إلى الحفرة فتمدد فيها، وصاح بأعلى صوته قائلا: أهيلوا علي التراب ... واتركوا هنا قائدكم، فلستم بأبنائي ولست بأبيكم، ولخير لي أن أموت.
فدوت هذه الكلمات في الفضاء، ورددها الصدى بين الجبال، ولم تبق أذن في الجيش لم تسمعها، فاندفعت فرسان الروسيين نحو الحفرة والدموع ملء محاجرهم، فرفعوا قائدهم على أذرعهم يلتمسون عفوه ورضاه، ويطلبون منه أن يقودهم إلى العدو أيا كان وأنى كان، فصاح بهم سوفاروف قائلا: الحمد لله، الآن عرفت أبنائي، فهيا بنا نحو العدو، هيا بنا نحو العدو.
صفحة غير معروفة