[سيرة رسول الله1]
(1)
محمد رسول الله (ص) الجزء الاول
حول دراسة السيرة والتأريخ
يشكل التاريخ تجربة إنسانية وصيغة تشكيلية لوقائع وأحداث وقعت في الماضي ، وفق قوانين وسنن اجتماعية تكشف عن وضع الانسان ومستواه الفكري والنفسي والحضاري ، ومع التسليم بوجود سنن وقوانين تتحكم بتأريخ البشرية؛ تتم القناعة باحتمال تكرار الاحداث والوقائع المشابهة لها في الحاضر والمستقبل ، إذا ما توفرت أسبابها وشروطها كاملة .
وقد اهتم الانسان بحفظ أحداث الماضي وتدوينها ، ونقلها إلى أجيال الحاضر والمستقبل . ولعل اليونانيين هم أول من دون التاريخ وكتبه واعتنى به بهذا الشكل .
ولم تكن العرب لتعرف التدوين التأريخي ، بل كان الشعر والأخبار والقصص التي تروى شفاهة هي سجل العرب وديوان معارفهم وثقافتهم التاريخية .
وحين بزغ نور الاسلام، وهبط الوحي في أرض الجزيرة العربية ، وبدأت أحداث الدعوة الاسلامية ووقائعها وتأريخها بكل ما فيها : من سيرة النبي الكريم محمد (ص) العملية ، وسيرة أصحابه ، وكيفية قيامه بمهامها والصراع ضد خصوم الاسلام ، ومواقف الرسول العسكرية والسياسية ، وخطبه ومراسلاته وأحاديثه وتوجيهاته ومحاوراته .
وقعت كل تلك الاحداث العظيمة والخطيرة ، ولم تكن تدون أو تسجل ، بل كان أصحابه ومن يسمعونها أو يشاهدونها يتحدثون بها ويروونها مشافهة، عدا مراسلاته المكتوبة التي كان يبعث بها إلى الملوك والرؤساء .
وقد اشتد اهتمام المسلمين بحفظ ورواية ما يصدر عن الرسول الكريم (ص) من
أقوال وأفعال وتقريرات ؛ بتبليغها ونشرها بين الناس . إلا أن عدم تدوين ما كان يصدر عن الرسول الكريم (ص) في حينه ، قد تسبب في ضياع الكثير من تلك الآثار العظيمة ، خصوصا ما صدر منه في مكة المكرمة .
صفحة ١
كان الرسول (ص) يبعث ببعض أصحابه للدعوة والتبليغ والقضاء؛ فيوسع دائرة النشر لما يصدر عنه ، ويعمم تبليغه . كما كان يحث الناس على نشر وتبليغ ما يصدر عنه (ص) من أقوال وممارسات .
وقد روي عنه قوله (ص) يوم حجة الوداع :
(2)
« نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه »(1).
ثم إن المسلمين شعروا بالحاجة إلى الكتابة ، وتدوين حديث رسول الله وسيرته المباركة بعد وفاته ، إلا أنهم واجهوا رفضا من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كما صرح بذلك ابن سعد في كتاب الطبقات . غير أن الرواة والمؤرخين يذكرون أن أول من دون في الاسلام وسمح به بعد عصر النبوة هو الامام علي بن أبي طالب ، وولده الحسن (ع) .
وقد كثر الكذب والدس على رسول الله (ص) ، فتسرب التحريف إلى السنة النبوية، وزور كثير من وقائع التاريخ وأحداثه، بسبب الصراعات السياسية والنزاعات الفكرية ، وظهور الزنادقة والمندسين والوضاع والكذابين ، وتسرب الاسرائيليات وأمثال ذلك، لذا فإن معرفة الحقيقة التاريخية والسنة النبوية صارت أمرا يحتاج إلى بحث وتحقيق ، وتحر علمي دقيق ، وموضوعية أمينة من الباحث والمحقق .
وواضح لدينا كم هو مهم وخطير الحصول على السيرة والسنة النبوية بكمالها
وصحتها ، ذلك لان السنة النبوية تشكل المصدر الثاني للفكر والتشريع الاسلامي بعد كتاب الله سبحانه ، وهي الدليل الهادي للامة ولمسيرتها في الحياة .
صفحة ٢
وهذه الاهمية هي التي دعت المسلمين بمختلف مذاهبهم إلى الاهتمام بحفظ السنة والسيرة النبوية ، وتدوينهما فيما بعد ، فاسس علم الرجال ، والفت كتب التراجم والطبقات لمعرفة أحوال الرواة ورجال الحديث والسير وضبط أسانيدها، لتمييز الصادق من الكاذب ، ومعرفة عقيدته وضبطه للرواية ، وطبقته في الرواة ، للوثوق بما يرويه .
كما اسس علم الدراية (علم الحديث والرواية) ليتعهد هذا العلم بدراسة متن الحديث ونصوص الروايات ونقدها ، وتأسيس القواعد والاسس لتقويمها ومعرفتها . كما وضع علماء اصول الفقه القواعد الاصولية لفهم السيرة العملية وحل التعارض بين الروايات والاخبار ، وتقديم بعضها على بعض .
إلا أن هذه الدراسات نفسها على الرغم مما قدمته من خدمة جليلة للسنة والسيرة والتاريخ،لم تستطع أن تتجاوز مشاكل الباحث الذاتية،وميوله الشخصية،وقدراته العلمية القاصرة أحيانا إضافة إلى مشاكل البحث المنهجي وتعدد النظريات والآراء الرجالية والروائية التي بني عليها علم الرجال والدراية واصول الفقه.وبذا تكرس جانب كبير مما كان ينبغي تصحيحه،ومما هو مشكوك فيه،أو موضوع ومدسوس في السنة،أو من محاولات طمس بعض أجزائها ومعالمها .
(3)
وقد واجهت السنة والسيرة النبوية عملية الوضع والكذب على رسول الله (ص) حتى في زمانه ، مما دعاه إلى أن يخطب الناس وينادي :
« أيها الناس ! قد كثرت علي الكذابة ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار »(1).
كما عرضت السنة إلى التحريف بتعمد إهمال بعض النصوص أو الحوادث والشخصيات وطمسها ، وعدم ذكرها ، وحذف عبارات من أقوال الرسول (ص) .
وعليه فالتحريف الذي ادخل على السيرة والسنة النبوية تركز في :
صفحة ٣
1 وضع الاحاديث المكذوبة على رسول الله (ص) ، خصوصا في مجال العقائد والمناقب والاشادة بالشخصيات .
2 طمس بعض الحوادث والمواقف والاقوال الصادرة عن رسول الله (ص) وعدم روايتها ، والحيلولة دون إخراجها في كتب الحديث والسير والتاريخ والرواية لتضييعها لئلا يطلع عليها الرأي العام الاسلامي ، دفاعا عن موقف سياسي ، أو معتقد فكري يراه هذا الحاكم ، أو ذاك المؤرخ والراوي ، وأمثالهم .
3 التلاعب بما روي ، وعدم ضبط الالفاظ أو أسماء الاشخاص كما صدرت عن رسول الله (ص) لتضييع الحقيقة ، أو تغيير معناها .
4 التلاعب بحوادث التاريخ التي تلت رسول الله (ص) والمرتبطة بامتداد السنة والسيرة النبوية .
5 بتر بعض الجمل والعبارات الواردة في بعض أقوال الرسول (ص) .
إن الدارس لحوادث التاريخ والسيرة والسنة المطهرة يشاهد كل ذلك ويلمسه ، ويجد التلاعب والتحريف بمستوى اريد له أن يغير حقائق كثيرة وخطيرة ، خصوصا في المجال السياسي منها ، لذا لا بد لنا من أن ننادي جميعا بضرورة إعادة كتابة التاريخ وتنقيح ما بأيدينا من مصادر ووثائق .
مشاكل البحث التاريخي
إن البحث في آفاق السيرة والتاريخ يواجه مشكلة معقدة وشاقة للحصول على الحقيقة العلمية .
ولعل أبرز مشاكل البحث التاريخي التي تؤثر على سلامة المعلومات والحادثة ودقتها هي :
(4)
1 الدس والتزييف في المصادر .
2 بروز العنصر الذاتي في البحث التاريخي ، وفرض بعض الباحثين آراءهم الشخصية وانتماءاتهم السياسية غير المتطابقة مع محتوى السنة وارشادها ، وجر الاحداث ووقائع السيرة إلى ما يكرس قناعاتهم ولا يتعارض معها .
3 التعارض بين المنقولات وصعوبة تمييز الصحيح منها .
4 الغفلة والاخطاء وعدم الضبط عند بعض المؤرخين والرواة .
5 تأثر الحدث والخبر والقضية بالظرف السياسي الذي دونت فيه الحوادث والروايات .
صفحة ٤
6 ضياع بعض المصادر والوثائق وعدم وصولها إلينا .
وعلى الرغم من تلك الصعوبات ، فإن بين أيدينا الآن حقائق ووثائق وأدلة تاريخية توضح لنا السيرة النبوية وسنتها ، وتكشف لنا الحقيقة ، وتضيء جوانبها المختلفة .
ويحتاج الباحث والقارئ والمتلقي لتلك الحقائق ، أن يكون منصفا مستمعا لكلمة الحق ، مجردا عن هوى النفس والعناد والتعصب لغير الحق والاصرار على ما آمن به وتلقاه بصورة غير أمينة .
إننا بحاجة إلى الواقعية والموضوعية والامانة العلمية ، عند البحث في وقائع التأريخ ودراستها وتجريدها من المدسوسات والتلاعب القديم منه والحديث وخصوصا المحاولات التخريبية التي قام بها بعض المستشرقين ، وما زالوا يقومون بها ، ويواصلونها لتحريف الحقيقة التاريخية وتزوير تاريخ الامة ومجدها المشرق .
ومن المؤسف حقا أن يتخذ بعض الكتاب والاساتذة والمثقفين ، من المستشرقين وكتاباتهم ، في التاريخ الاسلامي وسيرة الرسول (ص) مصدرا لمعارفه وأساسا لدراساته وأبحاثه دون الرجوع إلى مصادره الاساسية .
أبرز مصادر البحث في التاريخ الاسلامي
هناك مصادر كثيرة لمعرفة السيرة النبوية والتاريخ الاسلامي الذي وقعت أحداثه في مرحلة الدعوة الاسلامية ، ومن أبرزها :
1 القرآن الكريم ، الذي تحدث عن كثير من الاحداث والوقائع الاجتماعية والحوادث الحربية، كما استعرض أوضاع العرب وعقائدهم ، وكثيرا من أحوالهم . وقد تعهدت كتب التفسير وأسباب النزول بشرح تلك الحوادث والاوضاع الاجتماعية، وتحديد أسماء الاشخاص وعلاقتها بالسيرة النبوية، كما أوضحت قيمة الشخصيات الاسلامية وجهادها وموقعها العقائدي، إلا أن هذه المصادر هي بدورها تحتاج إلى التمحيص والتحقيق .
2 كتب الروايات والتأريخ والسير والتراجم والرجال .
(5)
3 الادب والشعر وما حوى من حقائق وإيضاحات .
صفحة ٥
4 الآثار المادية التي يمكن الحصول عليها من خلال التنقيب والحفريات ، كالنقود والاواني والتحف والابنية والاسلحة والازياء ... الخ .
5 الكتب العلمية وما حوت من علوم ومعارف واستشهادات .
الاوضاع قبل البعثة النبوية
من يستنطق سجل التاريخ ويقرأ صفحاته وآثاره قراءة تحليلية واعية، ومن يستقرئ آيات القرآن الكريم ، ويتعمق في فهم وتفسير ومعرفة طبيعة المجتمع وتكوينه النفسي والاقتصادي والثقافي والعقائدي والاجتماعي ، من خلال أسباب نزول الآيات التي تحدثت عن أوضاع العرب وطبيعة أصحاب الديانات السماوية والوثنية ، وما وصلت إليه من ترد وسقوط .
من يستقرئ تلك المصادر كلها ويستنطقها يكتشف الصورة المأساوية والاوضاع المتخلفة التي كان يعيشها العرب في الجزيرة، والعالم الجاهلي المتحضر نسبيا من حولهم آنذاك، إذ كانت تلك المنطقة من العالم بما فيها مكة التي تعتبر مركزا مهما من مراكز العرب التجارية والسياسية والدينية تعيش حالة من التخلف والانحطاط بكل معانيه .
فالجهل والامية والخرافة تسيطر على الجزيرة العربية وتعبث بالعقول والمعتقدات ، ولم يكن في مكة من يعرف القراءة والكتابة غير عدد قليل يعد على الاصابع كما يذكر المؤرخون ذلك .
كما لم يكن العرب أهل كتاب ولا ديانة سماوية ترفع من مستواهم الفكري ، أو تنظم حياتهم الاجتماعية ، وتعمق وعيهم الحضاري . بل كانوا أعرابا جاهليين يعبدون الاصنام والاوثان والجن والنجوم والملائكة ، وقليل منهم كانوا على دين إبراهيم أو المسيح (ع) .
والجدير بالذكر هنا ان مكة كانت بلد التوحيد، ومنطلق الايمان أيام إبراهيم وإسماعيل (ع) ، واللذين بعثا قبل بعثة نبينا محمد (ص) بأربعة آلاف سنة تقريبا ، ودعوا بدعوة الاصلاح والتوحيد ، وأسسا البيت الحرام ، وجعلاه بيتا للتوحيد وعبادة الرحمن .
وقد حكى القرآن هذه الحقيقة ووضحها بقوله :
صفحة ٦
(وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) . (الحج / 26)
(6)
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) .(البقرة / 127)
فانتشرت دعوة إبراهيم في جزيرة العرب ، وجعل البيت الحرام مركزا لهذه الدعوة السامية . ومما تجدر الاشارة إليه أن قريشا تنتسب إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) وتعتز بذلك، وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) هو من ذريته المباركة .
وبعد فترة من الزمن دخلت الوثنية إلى مكة، دخلتها بعد انهيار سد مأرب وتفرق العرب في البلدان، وتأثرهم بالديانات الوثنية التي كانت منتشرة في بلاد الشام.
ويذكر المؤرخون أن قبيلة «جرهم» كانت تتولى سدانة الكعبة ورعايتها بعد وفاة «نابت» بن إسماعيل ، فأزاحتها قبيلة خزاعة بالقوة ، واستولت على موقعها الديني هذا ، فدنست البيت الحرام ، وأدخلت إليه الاصنام والوثنية .
فكان أول من أدخل الاوثان إلى الكعبة «عمرو بن لحي » زعيم خزاعة ، التي انتصرت بقيادته على قبيلة جرهم، وقد جاء بالصنم الكبير «هبل» ونصبه في البيت ، فغيرت معالم التوحيد ، وحرفت الحنيفية التي دعا بها إبراهيم وولده إسماعيل (ع) .
ويذكر المؤرخون أن عمرو بن لحي كان قد نقل فكرة الوثنية من بلاد الشام التي زارها ، ورأى وثنية أهلها ، فتأثر بها .
وهكذا سادت الوثنية في مكة ، وغابت معالم التوحيد ، ودنس البيت الحرام ، رغم تعظيم قريش وقبائل العرب كافة لهذا البيت المقدس ، واهتمامها بحجه وتقديسه أيام الجاهلية والوثنية ، وكانت تعتبره حرما آمنا وبيتا مباركا .
صفحة ٧
وإذا كانت هذه هي عقيدة العرب السائدة آنذاك ، وصيغة دياناتهم ، فإن الامم الاكثر حضارة وتقدما منهم ، وهم اليهود والنصارى والمجوس ، كانوا أيضا يعيشون حياة الجاهلية والضلال والانحراف العقائدي والظلم والاضطهاد السياسي والاجتماعي، ويخضعون لتسلط الطواغيت . فقد حرف اليهود التوراة وشريعة موسى وما جاء به الانبياء الذين سبقوهم .
كما حرف النصارى الانجيل، وتلاعبوا بدعوة المسيح وعقيدة التوحيد التي طبعوها بطابع الوثنية والتثليث؛ الذي تسرب إليهم من الحضارة الرومانية الوثنية ، والفكر اليهودي المنحرف . فعدوا الخالق العظيم ثالث ثلاثة ( الأب والابن وروح القدس) .
(7)
كما حرفت بقية المبادئ والمرتكزات العقائدية والتشريعية في الديانة المسيحية . وكانت النصرانية آنذاك تملك قوة سياسية ومدنية هائلة ، إذ كانت في بلاد الشام دولة الروم المسيحية ، كما كانت مصر دولة مسيحية قوية أيضا .
وفي بلاد الحبشة كانت دولة الاحباش المسيحية التي تقع قبال الجنوب الغربي من الجزيرة العربية ، في الوقت الذي كان فيه انتشار كبير للمسيحية في بلاد اليمن ، بلاد الخصب والمدنية في جزيرة العرب .
وكانت المجوسية (عبادة النار) الديانة السائدة في بلاد فارس التي تقع شرق الجزيرة العربية . وكانت دولة الاكاسرة القوة السياسية والمدنية الكبرى القائمة في تلك المنطقة آنذاك وكان لها م امتداد في بلاد اليمن داخل الجزيرة العربية ، وامتداد داخل أرض الرافدين أيضا .
وهكذا كانت تحيط بالعرب البدو المتخلفين ، ثلاث دول كبرى ، هي دولة الروم في المغرب، ودولة الفرس في المشرق ، ودولة الاحباش في الجنوب الغربي ، وهي قوى سياسية وحضارية كبرى . في حين كان العرب في مكة وما حولها لا يعرفون في تلك الفترة مفهوم الدولة والسلطة السياسية ولا التنظيم الاداري ، ولا الحياة المدنية المستقرة .
صفحة ٨
وفقد كانوا يعيشون سلطة القبيلة وتسلط الاسياد والاقوياء على الفقراء والعبيد، وكان المجتمع المكي مجتمعا يتكون من ثلاث طبقات متميزة هي :
1 طبقة الاثرياء وأصحاب رؤوس الاموال : أمثال أبي سفيان وأبي لهب والوليد والعباس بن عبد المطلب وغيرهم ، وكانوا يمثلون الطبقة الرأسمالية الربوية والتجارية ، التي تملك السلطة والسيادة ، والتي كانت بسيطرتها على مكة وعلى البيت الحرام آنذاك ، تملك نفوذا واسعا بين قبائل العرب وشعوبها .
2 طبقة الفقراء والمعدمين : الذين كانوا يعيشون حالة الفقر والبؤس والاضطهاد الاجتماعي .
3 طبقة العبيد : وهي الطبقة التي عاشت حالة الفقر والبؤس وحسب ، وكانت تعامل معاملة الحيوانات والمنبوذين ، ويموت العبيد تحت السياط وأقدام الاسياد .
لقد كان الفقر والبؤس والجهل والمرض، أشباحا مرعبة تسيطر على قبائل العرب المتناثرة في جزيرتها الموحشة الجرداء .
تلك الحياة والوضعية الاجتماعية المزرية ، التي صورها لنا القرآن الكريم حين هاجم أصحاب رؤوس المال الجشعين ، عندما تحدث عن حالة البؤس والفقر ، التي دعت بعضهم إلى قتل أولادهم والتخلص منهم .
(8)
وقد صورت إحدى آيات القرآن الكريم هذه الصورة المأساوية المروعة بنصها :
(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) .(الاسراء / 31)
فشرحت أبعاد المأساة الاقتصادية والوضع الاجتماعي المتردي ، الذي كان يعيشه العرب تحت وطأة الجاهلية .
ويتحدث القرآن في آيات اخرى عن الخوف والفقر فيذكر بنعمة الاسلام الذي
أبدلهم بالخوف أمنا حين ثبت هذه الحقيقة بقوله :
(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ) .(العنكبوت / 67) قال الطبرسي مبينا معنى الآية هذه ، في تفسيره «مجمع البيان» :
صفحة ٩
« أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (أنا جعلنا حرما آمنا ) يأمن أهله فيه من القتل والغارة ، (ويتخطف الناس من حولهم ) أي يقتل بعضهم بعضا فيما حولهم وهم آمنون في الحرم »(1).
وقال الراغب الاصفهاني في معجم «ألفاظ القرآن» :
« أي يقتلون ويسلبون »(2).
ويذكر القرآن بتلك الصورة المأساوية ، صورة الرعب والخوف والفقر بقوله :
(فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ).(قريش/3، 4)
أما المرأة فكانت تعاني حياة البؤس والشقاء ، وتعامل معاملة الحيوانات والمتاع ، فلا حقوق لها ولا كرامة ، بل لا يسمح لها أن تعيش على سطح هذه الارض ، وهي في عرف ذلك المجتمع الجاهلي ملك للرجل، وتورث كما تورث الحيوانات والممتلكات الاخرى؛ وفقد كان الابناء يرثون زوجات الآباء ويتزوجونهن .
تلك الظاهرة البشعة التي أشار إليها القرآن الكريم ، وحرم الاقدام عليها بقوله :
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ).(النساء / 22)
بل وكان أحدهم إذا ولدت امرأته بنتا ، سيطر عليه الهم والحزن ، وشعر بالخوف من العار
(9)
وسوء السمعة ، ولجأ إلى قتلها أو دفنها حية أو تقبلها على مضض واحتقار وكراهية؛ فكانت المرأة ضحية هذه العقلية المتخلفة والاعراف الاجتماعية البالية ، حتى بلغت الجريمة والقساوة والوحشية بأولئك القساة الجفاة أن يدفنوا بناتهم وهن أحياء ، للتخلص من الانفاق عليهن ، ومن العار والشنار الذي يخشون وقوعه من المرأة .
صفحة ١٠
ويسجل القرآن تلك المشاهد المأساوية في تاريخ المرأة المنكودة ، وينتصر لها ويدافع عن إنسانيتها المعذبة ، فينادي في مجتمع العرب آنذاك مستنكرا أعرافهم ومواقفهم بقوله :
(وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ).(النحل/58 ، 59)
ثم يرفع صوته مرة اخرى مدافعا عن انسانية المرأة وكرامتها :
(وإذا الموؤودة سئلت * بأي ذنب قتلت ) . (التكوير / 8 ، 9)
بل وينحط مستوى المرأة في ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف ، فتتحول إلى سلعة وأداة للاشباع الجنسي ، فينتشر البغاء والاباحية بشكل يجعل المرأة تختار من بين الرجال الذين يمارسون معها عملية الزنا رجلا ، فتنسب إليه ابنها وتعتبره أبا له .
وليست هذه الصورة الاباحية الحيوانية هي أبشع صور الانحطاط الجنسي ، بل وكانت هناك الاحياء الخاصة بالبغايا اللواتي يرفعن الاعلام الحمراء، ويحترفن البغاء، فكانت العرب تسميهن بذوات الاعلام ، بل كان البعض منهم يحترف الاكتساب بالبغايا ، فيشتري الجواري ويسخرهن للعمل بالزنا وكسب المال من هذه الممارسة الجنسية .
وجدير ذكره هنا أن تلك الظاهرة الاخلاقية الجاهلية ، هي ظاهرة متفشية اليوم في المجتمعات الجاهلية المعاصرة ، كالمجتمع الاوربي والامريكي والمجتمعات الماركسية ، المتأثرة بهذا الاسلوب الجاهلي المنحط في كل أنحاء العالم، خصوصا في العالمين الشرقي والغربي، مما يكشف وحدة السلوك والآخلاق والاتجاه الجاهلي .
صفحة ١١
تحدث القرآن عن تلك الظاهرة الاخلاقية الجاهلية ، وحرمها في العديد من آياته ، وثبت العقوبة الحاسمة على مقترفها ; تلك الجريمة التي قادت البشرية اليوم إلى أسوأ كارثة تهدد الحياة بأسرها ، وهي كارثة هدم الاسرة ، وتمزيق روابط الحياة الاجتماعية المستقرة ، وانتشار الامراض الجنسية ، كمرض الزهري والسفلس ومرض الايدز ، الذي يعد بعض العلماء خطره بأعظم من خطر القنبلة الذرية على البشرية .
لقد تحدث القرآن عن هذه الظاهرة بعدة آيات منها :
(محصنين غير مسافحين ) . (النساء / 24)
(10)
(والزانية لا ينكحها إلا زان ) . (النور / 3)
(ولا متخذات أخدان ) . (النساء / 25)
(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) . (النور / 33)
وقد وضح المفسرون أسباب نزول هذه الآيات فشرحوا لنا الوضعية الاجتماعية المنهارة آنذاك ، وصورة الانحطاط والمعاملة الوحشية للمرأة .
وهكذا تتجسد طبيعة ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف ، تلك الطبيعة التي وصفها جعفر ابن أبي طالب في حديثه للنجاشي ملك الحبشة بقوله :
« أيها الملك كنا أهل جاهلية؛ نعبد الاصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الارحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك
به شيئا ، ونخلع ما كنا نعبد من الاصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام »(1).
صفحة ١٢
وهكذا تتجسد أمامنا الحياة الجاهلية بكل أبعادها ومرارتها وانحطاطها الاخلاقي والاقتصادي والعقائدي والسياسي والامني والاجتماعي ... الخ .
وعندما نعرف هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم الاسلام ، وعظمة نبي الاسلام الهادي محمد (ص) الذي استطاع بمشيئة الله ولطفه أن ينقذ البشرية ، ويضعها على طريق المدنية والاستقامة السلوكية؛ مبتدئا بمن حوله من العرب ، وممتدا برسالته العالمية التي حملتها من بعده امته ، وبشر بها الدعاة إلى الله سبحانه في كل مكان ، وهي اليوم قوة حضارية ، ورسالة الانسان المتحضر والعقل العلمي المتحرر من سيطرة المادية والشهوانية المنحرفة ، وملجأ الانسان ومشروعه الحضاري المؤمل .
وصدق الله الذي وصف رسالة نبيه بقوله :
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ).(المائدة 15 ، 16)
(ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم ) .(الاعراف / 157)
(استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) .(الانفال / 24)
(11)
ميلاد البشير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
عندما حان وقت الميلاد أرهصت الدنيا بعلامات الهادي الحبيب ، فالارض ملئت ظلما وجورا، والجاهلية قد استطال ظلامها فغشيت العيون والقلوب، وغدت الارض مرتعا للظلم والفساد، والاديان وكتب الله قد حرفت وشوهت معالمها، وكان لا بد أن يشرق اللطف الالهي في ربوع الارض، وتتجدد رسالة الله سبحانه للانسان ، فيخاطبه بالكلمة الحق ، ويبلغه بدعوة الهدى ، وشاء الله أن يولد النور في رحاب مكة ، ويشع الوحي في سمائها المقدس ، ويتعالى صوت التوحيد في الحرم الآمن ، حرم إبراهيم وإسماعيل (ع) .
صفحة ١٣
وكما حدثنا القرآن وصور لنا ببيانه العذب ، واسلوبه الانيق ، وعرضه المعبر الدقيق ، تلك الصور والاوضاع المأساوية التي عايشها الانسان المعذب في مرحلة ما قبل محمد(ص).
فجاهلية العرب ووثنيتها واميتها ووحشيتها تعبث بأطلال الجزيرة ، وتدنس ربوع مكة والبيت الحرام، ومجوسية الفرس وسلطانها تعبث في مشرق الدنيا فسادا ، والنار تعبد من دون الله، وأحبار اليهود ورهبان النصرانية قد حرفوا التوراة والانجيل، ودولة الروم تسوم الناس في مغرب الدنيا سوء العذاب، والعالم يضج ، وكيل الارض يطفح بالجرائم ، وحياة الغاب المتوحشة تسيطر على سلوك الانسان .
في هذا الوسط الاجتماعي المتداعي وفي ظلمات ذلك العصر الجاهلي المتخلف بزغت أنوار الاسلام ، وشع ضياء محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (ص) ، المنحدر من ذرية النبي إسماعيل بن إبراهيم (ع) ودعوة إبراهيم المستجابة التي رواها القرآن على لسان إبراهيم (ع) :
(ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) . (البقرة / 129)
ويحكي رسول الله هذه الدعوة ويوضح ذلك السر ، فيقول (ص) :
« أنا دعوة أبي إبراهيم »(1).
فقد دعا النبي إبراهيم (ع) ربه حين أنزل ولده إسماعيل في مكة ، وهي أرض لا زرع فيها ولا ماء ، تحيطها البوادي القفر وتطوقها الجبال الجرداء ، دعا الله أن يرزقهم من الثمرات ،
(12)
ويجعل الارض المباركة عامرة بالناس والقاطنين ، وأن يبعث فيهم رسولا منهم ، فاستجاب الله دعاءه ، وكان محمد (ص) من ذريته المباركة يحمل راية التوحيد ، ويبشر بدعوة الهدى والاصلاح .
صفحة ١٤
وقد شاء الله أن يقترن عبد الله (1) بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، بعد حفر زمزم بعشر سنين أو تزيد ، وبعد افتداء أبيه له من الذبح بسنة .
وفي عام المحنة عام الفيل الذي دهم فيه مكة خطر الغزو والعدوان الحبشي لهدم الكعبة واطفاء نور النبوات واستئصال ميراث إبراهيم العظيم (ع)، في هذا العام (571) للميلاد ولد محمد بن عبد الله (ص) ، في شهر ربيع الاول (2)، قبل هجوم جيش الفيل بخمسين ليلة (3).
ولدته(4) امه آمنة بنت وهب في مكة المكرمة في منزل أبيه عبد الله بن عبد المطلب في شعب أبي طالب في البيت الذي آل إلى محمد بن يوسف الثقفي ، أخي الحجاج بن يوسف الثقفي(5) . وكانت ولادته قبل وفاة أبيه بشهرين(1).
صفحة ١٥
ولد رسول الله (ص) ، فولدت معه الآمال الكبار وولدت بميلاده حياة الانسان ، وفتحت صفحات وفصول جديدة في تاريخ البشرية . لقد كان يوم مولده هو يوم ميلاد الثورة على
(13)
الظلم والفساد والطغيان ، وهو يوم ميلاد الانقلاب والتغير الشامل في حياة البشرية . ولد محمد (ص) فاستقبله جده عبد المطلب بن هاشم بالغبطة والسرور، فقد كان أبوه عبد الله ذاهبا إلى الشام في سفر للتجارة والمقايضة (أو متوفى كما في بعض الروايات) .
التنشئة والتربية
ولد محمد (ص) وعاش طفولته الطاهرة برعاية جده عبد المطلب . وكانت عادة قريش ، إذا ولد لهم مولود بحثوا له عن مرضعة ، فكان أول لبن تناوله من المرضعات بعد رضاع امه هو لبن ثويبة مولاة (جارية مملوكة) عمه أبي لهب ، ثم راح جده يبحث عن المرضعات ، ويجد في إرساله إلى البادية ليتربى في أحضانها لينشأ فصيح اللسان ، قوي المراس .
صفحة ١٦
وكانت المرضعات كلما سمعن أنه يتيم أعرضن عن رضاعه ، ولم يقبلن به ، فقد كن يرغبن في المال الوافر والعطاء . وشاء الله أن تكون المربية التي تحظى بشرف احتضانه ورعايته هي (حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي) زوجة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي . تسلمه الحارث من جده عبد المطلب وسلمه إلى حليمة السعدية لينشأ في حضنها ، ويدرج بين أبنائها : عبد الله بن الحارث ، وأنيسة بنت الحارث ، وحذافة بنت الحارث التي عرفت باسم (الشيماء) ، هذه الشيماء التي كانت تحنو على رسول الله (ص) في طفولته وتحتضنه وتعتني به اعتناء المربية والحاضنة الرؤوم . وحين بلغ الرابعة (وقيل الخامسة أو السادسة) من عمره ، عادت به حليمة إلى امه وجده ، صبيا لا كالصبيان ، وناشئا لا كالناشئة؛ فقد نشأ وعاش طفولته في كنف تلك المربية الحنون ، ثم في رعاية امه وجده . عاش لا كما يعيش الصغار من أصحابه وأترابه، عاش ورعاية الله
تحوطه، ولطف المربي يغمر جوانب حياته وهو يعد ويربى إعدادا وتربية إلهية خاصة ، لذلك كان يقول (ص) :
« أدبني ربي فأحسن تأديبي »(1).
لقد ولد ونشأ وشب مطهرا مبرأ من الذنوب والمعاصي وعادات الجاهلية وعقائدها وسلوكها ، وعرف عنه النفور من الاوثان ، والتأمل في ملكوت السماوات والارض ، ثم الخلوة والانفراد والتعبد في مرحلة الشباب .
وهذا الصبي اليتيم ، والأمل وباب الغيب المفتوح على عالم الشهادة، كانت حياته مليئة بالمعاناة والفقد والفراق ، فحين أبصر نور مكة لم يبصر أباه عبد الله ، وحين غدا صبيا يمرح
(14)
في ظلال امه الحنون شاء الله سبحانه أن يعوضه عن حنان الامومة ، حنانه ورعايته الفريدة ، عندما توفيت آمنة وهو لم يتجاوز السادسة من عمره الشريف .
صفحة ١٧
فقد امه ، عندما كان يصحبها في سفر إلى المدينة المنورة لزيارة أخواله بني عدي بن النجار ليتعرف عليهم ، فقد مرضت وتوفيت في طريق العودة إلى مكة في قرية تدعى (الابواء) (1) بين مكة والمدينة ، فاحتضنته (ام أيمن ، بركة الحبشية) الخادمة التي صحبتهم في رحلة الوداع هذه ، وداع امه الحبيبة آمنة ، وسلمته إلى جده عبد المطلب ، ليفيض عليه العناية والرعاية والكفالة الحسنة ، ولم يفارقه حتى حال الموت بينهما ، والنبي لم يتجاوز الثامنة من عمره ، فكفله عمه أبو طالب الذي رافقه في صباه وشبابه ، وفي دعوته ومحنته وصراعه من أجل الحق ونشر دعوة الاسلام ، وتثبيت معالم الشريعة .
نما وترعرع محمد (ص) في بيت عمه أبي طالب ، حتى كبر وبلغ الخامسة والعشرين من عمره المبارك فتزوج خديجة .
وكانت فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب (ام الامام علي (ع) ) تفيض عليه من حبها وحنانها ما عوضه فقد امه آمنة .
وقد عبر عن ذلك يوم وفاتها بقوله (ص) :
« اليوم ماتت امي ، إنها كانت امي؛ إن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعثهم وتدهنني ، وكانت امي » (2).
الزواج الخالد
ولد محمد (ص) في بيت من أرفع بيوت العرب شأنا ، وأعلاها مجدا ، وأكثرها عزة ومنعة ، فكبر (ص) وترعرع وشب ، وشبت معه آمال الحياة كلها .
صفحة ١٨
وها هو محمد (ص) بن عبد الله في ريعان الشباب ، وقمة الفتوة وعنفوان الرجولة؛ إنه شاب من أكثر شباب قريش فتوة وجمالا ، وأعلاها شرفا ونسبا ، وهو بعد ذلك ، يمتاز عن سائر شباب قريش بشرف نفسه ، وكمال خلقه ، ونضج شخصيته ، فقد شاء الله أن يربي محمدا (ص) ويعده ، ويؤهله لحمل الرسالة ، والاضطلاع بتبليغ الامانة . لقد احيط (ص) برعاية إلهية خاصة ، أهلته وفق قدر رباني لما ينتظره من عظم المسؤولية ، وما يمكنه من حمل الرسالة ، ونشر الدعوة :
(15)
نسبه ، أرض مولده ، طفولته ، تربيته ، زواجه ، وكل شيء في حياته .
وها هو (ص) يبلغ من الشباب وعلى وجه التحديد سن الخامسة والعشرين من عمره الشريف ، فكان ولا بد له من الاقتران بامرأة تناسب إنسانيته ، وتتجاوب مع عظيم أهدافه ، وترتفع إلى مستوى حياته ، بما ينتظرها من جهاد ، وبذل وصبر ، ولم يكن في دنيا محمد (ص) من امرأة تصلح لهذه المهمة غير خديجة (رض) ، وشاء الله ذلك، فيتجه قلب خديجة نحو محمد (ص) ، ويتعلق بشخصه الكريم ، وتطلب هي النزول في ساحة عظمته ، وتعرض نفسها عليه ، فيقبل (ص) ذلك الطلب، ويقترن بخديجة (رض) .
تزوج رسول الله (ص) خديجة (1) ، وهو لما يزل في الخامسة والعشرين من عمره الشريف .
صفحة ١٩
وبعد أن تم الزواج المبارك انتقل رسول الله (ص) إلى دار خديجة؛ تلك الدار التي ما زالت معلما شاخصا ولسانا ناطقا يحكي أحداث الدعوة والجهاد وصبر رسول الله (ص) ومعاناته .
تحدث ابن جرير الطبري عن هذا المعلم والبيت المبارك فقال :
« وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم ، فيقال منزل خديجة ، فاشتراه معاوية فيما ذكر ، فجعله مسجدا يصلي فيه الناس ، وبناه على الذي هو عليه اليوم ، لم يغير ، وأما الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت ، فإن رسول الله (ص) كان يجلس تحته ، ويستتر به من الرمي إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة ، والحجر ذراع وشبر في ذراع »(1) .
وهكذا تكونت الاسرة، واجتمعت الاركان فشيد بيت النبوة من الزوجة (الطاهرة) ام المؤمنين الكبرى ، خديجة بنت خويلد ، والزوج الرسول محمد (ص) ذي الخلق
(16)
العظيم ، الذي سمته قريش أيام جاهليتها ب (الصادق الامين) .
كانت هذه الاسرة المثالية واحة الفضيلة في صحراء الجاهلية ، وبحبوحة السعادة في دنيا الشقاء آنذاك؛ يغمرها الحب ، ويشد أواصرها الاخلاص .
صفحة ٢٠