وهكذا فشلت خطتها هذه المرة أيضا في استعجال وحسم أمر «تاج حمير» الذي لن يكتمل نصابه إلا عقب الالتزام بالوصية، مهما ثقلت المهام إلى حد إراقة الدم الواحد، وهي التي كان يروق لها أحيانا إشعال نيران المحارق في الأجساد من بهائم وطيور وبشر.
كانت البسوس أو سعاد التي تعرف بأسمائها المتعددة، قد آثرت في سنواتها الأخيرة التفرغ الكامل لرعاية شئون عرش «التباعنة» وما يتطلبه ذلك من تدخل في أدق المشاكل والقضايا التي لا تنقطع، كتلك التي عادة ما تنشب وتستجد بين القبائل والعشائر والبطون والأقوام المترامية على طول الجزيرة العربية شمالها وجنوبها، والتي يضمها ذلك التحالف القبائلي الحميري أو القحطاني.
ومنذ شبابها المبكر كانت شديدة الحماس حفاظا على تقاليد عرش التباعنة؛ لذا آثرت رغم زواجها من أحد أمراء بلاد «السرو وعبادة»؛ أي «الأردن اليوم» واسمه «سعد»، وانتقالها منذ البداية للعيش في بلاده، والعودة معا للعيش في سبأ، بعد أن شق عليها الابتعاد عن متابعة ما يستجد من مشاكل حكم حمير وصراعات أقوامها، وفي البداية رفض زوجها «سعد» مطلبها ذاك وهو الانتقال ببيته وكيانه وممتلكاته للعيش في وطن الزوجة، إلا أن مرضا ثقيلا ألم به فجأة في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاة أخيها التبع أسعد، عقب كارثة تشتيت جيشه في ربوع الصين.
هنا استسلم لها الزوج واستجاب لأطماعها ومنطقها في رعاية شئون حكم حمير بعد موت التبع ، فوافق على الانتقال معها إلى سبأ والعيش بها، ووصل الاندهاش - بالعمة - البسوس أقصى مداه، وهي ترقب من خلف ستائرها وخبائها، ما يحدث بين الأخ وأخيه من تعاطف.
وأفزعها أكثر ذلك التراخي الذي يبديه الأخ الأكبر حسان نحو أخيه الأصغر محتضنا إياه مارين على طول ردهات القصر، في ذلك الأصيل الذي بدت فيه الشمس الغاربة، عبر الشرفات والنوافذ، قانية الاحمرار كمثل جمر نار متأجج.
وأدهشها ضعف حسان وهو يتوسل إلى شقيقه الأصغر «عمرو» في التقدم ليأخذ مكانه ويعتلي عرش «التباعنة» معبرا بكل جوارحه عن شقائه وما أصبح يعانيه من آلام ليس في مقدوره احتمالها. - أنت أخي.
غمغمت البسوس وهي تفح في غل: عشنا وشفنا.
قالت لنفسها: أعلى هذا النحو من الرقة والسماحة يجيء تبع حمير، المنتظر!
وواجهته البسوس بهذا القول - المزري - ساخرة إلى حد أن حسان انسل خارجا من قصرها دون رجعة. - عمتي، اتركيني.
واستبد بالبسوس الغضب من تصرفات ابن أخيها حسان على هذا النحو - الحنون - الأرعن، حتى إنها لم تحاول أن تثنيه عن عزمه في الخروج من قصرها رافضا غاضبا على هذا النحو، وكل ما قالته له هو: انتظر، أنت ملك حمير.
صفحة غير معروفة