وعلى الفور دوى قرع الطبول العملاقة من خارج القصر وأعلى سفوح الجبال المحيطة معلنة موت الملك التبع أسعد، وكان صدى دوي الطبول يتردد في كل مكان كالهدير.
وسرى الخبر كالنار في الهشيم من مدينة إلى أخرى، ومن مضارب قبيلة إلى ما يجاورها، فارتفعت أصوات النساء النائحات وعقدت اللقاءات بين شيوخ القبائل وأمرائها، وارتفعت أصوات المنشدين بالأشعار الجنائزية التي تتحدث عن مآثر التبع الراحل وطموحاته وفتوحاته التي لم تفت في عضدها سوى الخيانة التي تعرض لها من ذلك الدليل الآسيوي، بل لقد وصل الحماس والحنق ببعض الأمراء وشيوخ القبائل، إلى حد المطالبة بإحضار ذلك الدليل الآسيوي - مقطوع اللسان - والانتقام منه علنا وعلى رءوس الأشهاد. - اقتلوه، اقتلوه!
وهنا تدخل الأمير الوريث «حسان» حائلا في حزم من وصول الجموع الثائرة التي امتلأت بها ساحات القصر إلى مطمورة ذلك الدليل الآسيوي لتصب عليه نقمتها دون رحمة؛ صارخا بها: ارجعوا، حذار.
فما فائدة الانتقام؟ بعدما نفذ المكتوب وأصبح الملك التبع جثة مسجاة ستوارى الثرى بعد لحظات.
بل إن الأمير حسان عاد مذكرا الجموع المتزاحمة الغاضبة بمدى ما لحق بذلك الدليل الآسيوي سلفا من عقاب، مشيرا إلى إقدام والده الراحل على جز لسانه في إحدى نوبات غضبه منه، صارخا: يكفي الآن ما هو فيه، أما الآن فهو ضيف حمير، أتسمعون!
الفصل الثاني
وصية كاهنة الجبل
اتخذ الملك التبع الجديد حسان وجهته ذات مساء إلى جبل «ضهر» مكدودا نهبا لخواطره المتضاربة، كانت أضواء المصابيح والشموع المشعلة تضيء سفوح الجبل العملاق، الذي تغطت متعرجاته وسفوحه وتضاريسه بالمضارب والخيام، يؤمها أتباع تلك السيدة - سيدة الجبل - من مرضى ومجاذيب ومعلولين.
وكانت جوقات الغناء الجماعي ذات المسحة الدينية الشعائرية تعلو من هنا ومن هناك، وهم يستخدمون في غنائهم وإنشادهم إيقاعات الدفوف الطاغية المثيرة لكل المشاعر الجسدية؛ حيث تتمايل عليها الجموع ميمنة وميسرة في غياب كامل عن كل وعي، وهي الجموع من سكان ذلك الجبل، من فقراء وأتباع ومعلولين ومشعوذين ودراويش ومرضى.
وما إن واجه حسان الجبل، حتى توقف بحصانه، لا يعرف أي المسالك يسلك، وأخفى من فوره وجهه بشاله مبعدا ملامحه عن العيون المستطلعة وأطلق العنان لحصانه راكضا من حول الجبل المائج بالحركة والغناء والحياة.
صفحة غير معروفة