قاربها أكثر في تودد: أتسمعينني، قمرية؟!
هب عن كرسيه متوقدا بالحماس الذي ألهبت به قمرية رأسه وأعصابه بمجرد لقائه بها، وكأنما هي جيش بأكمله قد هب لمساندته وشد أزره في وحدته المريرة هذه: أنا لم أعد أحتمل وحدي ذلك الغباء والتكاسل والتخلف الذي تعيشه هذه البلدان والأقوام والقبائل على طول هذه القارة المسترخية السوداء، أبدا لن أحتمل وحدي.
استدار مقاربا قمرية كمثل طفل يبغي هدهدة أمه الحنون الدافئة: أن أخرج بجيشي للقاء ذلك التبع اليمني وجيشه الذي يسد عين الشمس ذاتها وحدي؟!
واجهها في تلصص: ولعلك الأقدر على معرفة الأخطار التي جلبها ذو اليزن بنزوله وقبائله بلادنا.
كان الملك أرعد على دراية كاملة بمدى ما تتمتع به «قمرية» من قدرات سياسية لا تقف حدودها عند الحبشة والسودان وما حولهما من أقوام وكيانات، بل إن بصيرة الجارية الأعجمية المولد واهتماماتها، أكثر تطلعا وطموحا على الدوام، ولعلها ومنذ أن جيء بها من الأناضول إلى إثيوبيا، تحلم ولا تزال، باليوم الذي ترى فيه نفسها في ذروة السلطة والتسلط، تحيط بها هالات الشهرة والمجد أينما حلت.
وكثيرا ما شاركها سيف أرعد حلمها الكبير هذا في التطلع، دون كلل، إلى ما وراء البحار.
قاربها سيف أرعد: ولا منقذ سواك يا قمريتي من هذه الكارثة. وأفضى إليها الملك الحبشي بتفاصيل خطته في التسلل - بقارورتها - إلى التبع ومعها غالي الهدايا وثمينها من كل نوع وصنف: جمال وخيول وقطعان ضأن، ومال وذهب وفاخر الثياب وأبدع منتجات الحبشة، وختم كلامه لها قائلا: ولعلك ستتكفلين بالباقي، في الوقت والمكان الذي تحددينه أنت يا قمرية، ولا أحد سواك.
وقضى الملك أرعد ليلته تلك، محذرا قمرية من كارثة انكشاف الأمر - المؤامرة - الذي سينتهي حتما بضياع ملكه وملك آبائه وأجداده، بل ضياع أفريقيا بأكملها.
حذرها الملك مرارا، من ضراوة انتقام التبع ذو اليزن لو انكشف أمرهما، كما حدث مع ملك بعلبك الذي مات قتيلا، حين نازله ذو اليزن وقطع رأسه، ودفنه بمهابة تليق بملك وصديق، وظل يبكيه على مرأى من ذويه ومقربيه شهورا.
كما حذرها الملك مطولا - بخاصة - من مدى سحر ومنطق واتساع علم ذلك الملك ذو اليزن، الذي تلين له الأحجار قبل البشر، فلقد كان الملك على معرفة بمدى طموح تلك السيدة القوية ذات الشكيمة التي لا تقف مطامعها عند حد.
صفحة غير معروفة