وفجع المصريون بموت مليكهم المنقذ المحبوب - سيف - فبكوه أياما في الطرقات والشوارع.
وكفن الملك سيف بن ذي يزن ودفن بمدفنه وكنوزه بالجبل الذي كان قد أعطاه اسمه الجيوشي وانتهت فاجعة موته الغادرة وسيرته العاطرة، «فركب على مصر أربعة ملوك من أرض خراسان العجم، ووقعت الحروب الطاحنة بينهم وبين دمياط ودمنهور الوحشي، وهرع لنجدتهم أسيوط ملك إيليا وفلسطين»، حسب نص مخطوطة السيرة المحفوظة بمكتبة المتحف البريطاني المرفقة.
السيرة بين التاريخ والفولكلور
ولعل أبرز ما تؤرخ له هذه السيرة الملحمية التي يتعاقب فيها الشعر والنثر، هو امتداد الصراع بين الساميين والحاميين، ثم تلك الحروب القبائلية الطاحنة التي اتخذت من الشام ميدانا، وبالتحديد منطقة بعلبك والبقاع بلبنان مرورا بفلسطين ومصر إلى حيث أفريقيا الوسطى والحبشة والسودان، بالإضافة إلى القرن الأفريقي، بهدف تعريب هذه الأقوام.
وهنا تنتهي حقيقة حدود مناطق النفوذ العربي الجنوبي، وهي ما تؤيده النقوش والمدونات التي عثر عليها علماء اللغات السامية، سواء في اليمنين، أو على طول الطريق التجاري الممتد من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها، مارا بمكة المكرمة ويثرب ومدائن صالح وتيماء وتبوك ومعان حتى دمشق.
كذلك أثبتت الاكتشافات الحفائرية - الأركيولوجية - في بلاد الحبشة وتخومها، أن هذه البلاد كانت خاضعة يوما ما للنفوذ التجاري أو الثقافي أو السياسي اليمني.
فالحروب الطاحنة بين العرب والأحباش أكدتها المصادر التاريخية الإسلامية، فالسيرة في حديثها عن تلك الحروب: تستطرد في عرض الحياة وأعمال البطولة، وهي صادقة في هذا العرض، إلى حد كبير، فسيف بن ذي يزن، الذي ولد لأبيه في أفريقيا، والذي تربى في البراري في الفلاة، وأتى منذ صباه بالكثير من أعمال البطولة وبعد النظر، كشخصية تاريخية ماثلة محققة، هو التبع اليمني الذي قاد الجيوش العربية الجنوبية، وطرد الأحباش وأنهى سطوتهم من بلاده، وقد تحدث «ابن هشام» عنه، وذكر الكثير من الأشعار والمعلقات التي تنسب إليه أو قيلت عنه، كما تعرض لحروبه ضد الفرس الطامعين، ودوره وحروبه ومآثره في شبه القارة الهندية، وانتساب الكثير من الأسر الحاكمة الآسيوية إليه، فهو الجد السالف للأسرة الحاكمة في «بوروناي»، وبطل من أبطال ملاحمهم.
وأخيرا يبدو أن راوي هذه السيرة، خبير بمصر التي احتفت بسيف بن ذي يزن وخوارقه وبطولاته في صد أطماع الأحباش من جانب، والفرس من جانب آخر؛ حيث يذكر من جغرافيتها، ولغتها وعاداتها أدق تفاصيل ملامح بلدانها مثل أسوان وإسنا وإخميم وأسيوط ومنفلوط وملوي وأهناسيا وحلوان والجيزة، وحارة الوطاويط، وقلعة الجبل والروضة، وجبل الجيوشي، الذي تسمى باسمه «أبو الجيوش» الملك سيف، ومدفنه به إلى اليوم، وذلك أيضا حسب نص مخطوطة المتحف البريطاني.
الفصل الرابع عشر
التعريب داخل أفريقيا
صفحة غير معروفة