وبينما كان النجاح يكلل آمال الفاتح في الغرب ويطير اسمه في كل قطر ومصر، كانت يد الزمان تهيئ له عدوا عتيدا في الشرق، هو: أوزون حسن (حسن الطويل)، زعيم عشيرة آق قيونليلر «ذوي الأغنام البيضاء»، ومن أبطال قومه الأشداء.
ظهر هذا الدعي في البلاد الكردية وعاث هو وإخوته فسادا في الأرض، وقد تزوج من ابنة إمبراطور طرابزون، ولا يخفى أن هذه الإمبراطورية هي من بقايا آثار حكومة القسطنطينية، وقد دخلت في كنف الدولة العثمانية على أيام السلطان محمد جلبي، وأصبحت تدفع لها خراجا معينا، فقام حسن الطويل يحاول حماية حميه وقطع الخراج عنه عندما كان الفاتح في تجريدة أماصره، وتعدى هذا الزعيم على حسين بك الضابط العثماني القائم في قيونلي حصار واحتل حصنه، وأرسل الفاتح حينئذ سرية من جنود الروملي تحت قيادة حمزة بك لتعاقب المذكور على عمله الشائن وفعله المعيب، ولم يوفق القائد؛ فبعث الزعيم بعض رواده لداخلية البلاد ليكشفوها.
هذا ما دعا الفاتح إلى حل عقدة ذوي الأغنام البيضاء، كما أنهى غائلة الإسفندياريين، وتوجه بذاته على البلاد الكردية.
علم حسن الطويل وفرة الجنود العثمانية ومكانتها الحربية من أخبار مستطلعيه ومن الصدام الذي حصل بين طلائع جيشه وجيش أحمد باشا كدك في جرخة.
وبقي يتردد برهة بين عاملين قويين؛ غرور يدفعه، وتدبير يمنعه، حتى غلب الثاني على الأول وانسحب حسن بجماعته إلى أعالي الجبال، وأوفد أمه السيدة سارة والشيخ حسين حاكم جمشكزك ليفاوضا السلطان في أمر الصلح.
وكان الفاتح قبل وصول الرسولين إليه استرجع قيونلي حصار وتخطاها إلى الأمام، فصادفاه في عرض الطريق، وأخذت أم حسن تستعمل دهاءها المفرط، وانضم إليها محمود باشا بشفاعته، فحول السلطان عزمه عن حسن ليظهر للناس أنه أجل من أن يسترسل في الطغيان وأعظم من أن يملك زمامه للحقد والضغينة، وبدأ يعامل أم حسن معاملة الولد البار، على أنه لم يطاوعها بالرجوع عما قرره بشأن حكومة طرابزون؛ لأنه كان يرمي إلى تحكيم نفوذه على شواطئ البحر الأسود، فضلا عن أن بقاءها على سابق عهدها يجعلها مباءة للروم في شرورهم، فأراد نضب مياه هذه الاضطرابات المنتظرة. وما زال سفيرا حسن الطويل في معية السلطان يسعيان لتحويل عزمه، ويعملان على إرجاعه عن قصده، ولم يتركا وسيلة وإلا وطرقاها، فلم يفلحا.
ومن جملة ما قالته سارة للسلطان عند ما رأته قد ترجل في طريق وعر ومشى على قدميه برهة غير يسيرة: «مولاي! هل يعادل ضبط حصن كل هذا العناء؟» فأجابها: «يا أماه، لم يكن غرضي ضبط الحصن، بل القيام بواجبي وواجب سيف الشريعة الذي قلدني إياه ربي.» وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب، فلم تحر سارة جوابا.
وبالرغم عن كل المصاعب التي وجدها الجيش في سبيله، فإنه قد اقتحمها ووصل طرابزون بأسرع ما يمكن، وسلمت القلعة بعد حصار قليل، وأرسل إمبراطورها إلى أدرنة بكل حفاوة واحترام.
ولما استقر الحال بالسلطان وأصبحت كل سواحل البحر الأسود الجنوبية في قبضة تصرفه، وجه همه إلى إبادة الطاغية العظيم ولار زعيم الأفلاق، وكان يعرف بين العثمانيين باسم ذي الأوتاد، وعند المجريين بالشيطان، ولدى رعاياه الأفلاقيين بالجلاد، وناهيك بها من أوصاف شنعاء تدل على الموصوف، وأسماء تنبئ عن المسمى، فكان في عداد الفتاكين الذين اضطهدوا الإنسانية، وأشربوا في قلوبهم الظلم، وقتلوا النفوس البريئة بإقامتها على الأوتاد وغليها في المراجل.
أحرز هذا الباغي مقامه بحماية السلطان، ولكن غلبت عليه الوحشة والدناءة، فقابل الحسنة بالسيئة، وعامل السفيرين المرسلين إليه من جانب السلطان بالقتل والصلب؛ لأنهما رفضا الدخول عليه حاسري الرءوس حفظا للشعائر الإسلامية؛ ولذلك أمر بالتمثيل بهما تمثيلا بربريا، كدق عمامتيهما على رأسيهما بالمسامير وصلبهما على الأوتاد، واجتاز هو والرعاع التي تفيأت بظله نهر الدانوب، ودخل بلغاريا ففتك بأهلها فتكا ذريعا دونه الطاعون، ودمرها تدميرا لا تقدر عليه الزلازل والإعصار.
صفحة غير معروفة