ولما بدأت هذه المقدمات أخذ خليل باشا يقنع الفاتح ويستميله لقبول الصلح، زاعما أنه لا يستبعد أن ترد النجدات إلى القسطنطينية وتزيد الحال إشكالا، وقد كاد يفلح لولا سابق ظن السلطان به في سلطنته الأولى ومعرفته حقيقة أمره وسوء طواياه، فكان يقتصر على استشارة زغنوش باشا وآق شمس الدين والملا كوراني ومن شاكلهم من الأجلاء والفضلاء، ويعول عليهم في المهمات ويرجع إليهم في المعضلات.
ثبت الفاتح على مبدئه من حيث مواصلة الحرب، بيد أنه كان يقدر حرج الموقف ووعورة المسلك، ويتطير من حرق السيارة ومقاومة حصون القسطنطينية لمدافعه الضخمة، وعدم مقابلة أسطوله أسطول عدوه.
شأن العاجز في الشدة اليأس والقنوط، والقادر الثبات والمثابرة على العمل. كذلك كان شأن الفاتح في أعماله؛ فإنه لما قطع خيط الأمل من قطع زنجير الخليج واعتقد أن محاولته المحال لا تجدي نفعا ولا تغني فتيلا، قدح زناد فكره واستضاء بنبراس عمله، وقرر أمرا لا يخطر على قلب بشر؛ وذلك فتح طريق برية من طولمة باغجة إلى قاسم باشا تسير عليها السفن، ورسم مصورها بيده وأمر بوضع سبعين سفينة عليها، وبعد أن فتحت أشرعتها اجتمع كل موجود في غلطة من إنسان وحيوان، واشتغلوا بجر هاته السفن وتسييرها في الليل، حتى إذا ما انبلج فرق الصباح كانت جميعها راسية في الخليج.
رأى العدو سفن العثمانيين ولم يكن يتوقع تلك الرؤية، وظن أنه في حلم، وهو معذور في ظنه؛ لأن هذا العمل العظيم الذي ناب به السهل والجبل مناب البحر، وسارت به المراكب في طريق يصعب سلوكه على المركبات، لا شك معجزة من المعجزات الباهرات، وخارقة من خوارق العادات.
وبعد أن خفت وطأة الدهش والحيرة التي استولت على العدو من جراء ذلك، قام يحاول إحراق السفن العثمانية وإغراقها عبثا؛ لأن السلطان كان على بينة من نوايا عدوه ويقظا على أسطوله.
ولم يكتف الفاتح بذلك بل أخذ بإنشاء جسر من جهة غلطة إلى الضفة المقابلة على ظهور قصع مرتبطة ببعضها كترتيب الجسور التي تقام الآن على الزوارق، وصارت تمر عليه الجنود والمدافع.
فخشي العدو العقبى، وحاول حرق الأسطول مرة أخرى كان نصيبه بها ما كان قبلا من الفشل، وما انتفع من ذلك سوى أنه بهذا العمل أيضا استدعى انتباه السلطان وحذره.
ولما رأى الروم ما حاق بهم قرروا سرا مناوشة الأسطول والجسر، على أمل أن يمسوهما بسوء بواسطة السفن الراسية داخل الزنجير والموكول إليها أمر حمايته، وكانت لا تقل عن خمس وعشرين قطعة.
علم السلطان بذلك، فعزم على مبادأتهم والكيل بكيلهم ليخلو له الجو ويزيح من وجهه هذه العقبة الكأداء، على أن النقطة الحاكمة على هذه السفن هي مركز جيش زغنوش باشا الذي كان مخيما في محل بك أوغلي، (بيريا) الآن، فالقذائف التي ترسل من هناك لا بد أن تعوج على حصون الجنويين الكائنة في غلطة، والجنويون في ذمة السلطان وعهده، فأصبح من الصعب درء الخطر عن أسطولنا بواسطة القلاع البرية.
أطرق الفاتح مليا، فتراءى له استعمال مدافع ترمي قذائف عوجاء ظن أنها تصل إلى هدفها بسهولة بدون أن تمس ما بطريقها، وأطلق أول قذيفة منها بذاته، فأصابت المرمى وأغرقت سفينة من سفن الروم.
صفحة غير معروفة