العيون على الخدود وامتلأت تلك الأفواه بالدود، وتساقطت الأعضاء وتمزقت الجلود، وتناثرت اللحوم وتقطعت البطون، فلم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما كسبوا، أسلمك الأحبة والأولياء وهجرك الأخوان والأصفياء ونسيك القرباء والبعداء. فأنسيت ولو نطقت لأنشدت قولنا عن سكان الثرى ورهائن الترب والبلى: شعر
مقيم بالحجون رهين رمس وأهلي رائحون بكل واد
كأني لم أكن لهم حبيبًا ولا كانوا الأحبة في السواد
فعوجوا بالسلام فإن أبيتم فأوموا بالسلام على بعاد
فإن طال المدى وصفا خليل سوانا فاذكروا صفو الوداد
وذاك أقل ما لك من حبيب وآخره إلى يوم التناد
فلو أنا بموقفكم وقفنا سقينا الترب من مهج الفؤاد
وقال مكرم بن يوسف العابد: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قف على المدائن والحصون وأبلغهم عني حرفين: لا يأكلوا إلا طيبًا ولا يتكلموا إلا بالحق. ولما دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز قال: عظني يا يزيد! فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم ما أنت أول خليفة يموت! فبكى عمر وقال: زدني يا يزيد. فقال: يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين آدم إلا أب ميت! فبكى وقال: زدني يا يزيد. فقال: يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين الموت موعد. فبكى وقال: زدني يا يزيد. فقال: يا أمير المؤمنين ليس بين الجنة والنار منزل! فسقط مغشيًا عليه.
يا أيها الرجل لا تغفل عن ذكر ما تتيقنه من وجوب الفناء وتقضي المسار وذهاب اللذات، وانقضاء الشهوات وبقاء التبعات وانقلابها حسرات، وإن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له؛ من صح فيها سقم ومن سلم فيها برم، ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن؛ حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب، من ساعاها فاتته ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته ومن تبصر بها بصرته، لا خيرها يدوم ولا سرورها يبقى ولا فيها المخلوق بقا.
يا أيها الرجل لا تخدعن كما خدع من قبلك، فإن الذي أصبحت فيه من النعم إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج من يدك مثل ما صار إليك، فلو بقيت الدنيا للعالم لم تصر للجاهل، ولو بقيت للأول لم تنتقل للآخر. يا أيها الرجل لو كانت الدنيا كلها ذهبًا وفضة، ثم سلمت عليك بالخلافة وألقت إليك مقاليدها وأفلاذ كبدها، ثم كنت طريدة للموت ما كان ينبغي لك أن تهنأ بعيش، ولا فخر فيما يزول ولا غنى فيما يفنى، وهل الدنيا إلا كما قال الأول: قدر يغلي وكنيف يملأ؟ وكما قال الشاعر:
ولقد سألت الدار عن أخبارهم فتمايلت عجبًا ولم تبدي
حتى مررت على الكنيف فقال لي أموالهم ونوالهم عندي!
ولقد أصاب ابن السماك لما قال له الرشيد: يا ابن السماك عظني، وبيده شربة من ماء، فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: فلا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة! يا أيها الشاب لا تغتر بشبابك فإن أكثر من يموت الشباب. والدليل عليه أن أقل الناس الشيوخ. يا أيها الشاب كم من جمل في التنور وأبوه يرعى؟ وكم من طفل في التراب وجده يحيا؟
1 / 8