بمنزل قوم قد ارتحلوا عنه، وإذا طلى مطروح فقال: أترون هذا هان على أهله؟ فقالوا: من هوانه عليهم ألقوه. قال: فو الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا على أهله. فجعل الدنيا أهون على الله من الجيفة المطروحة. وقال أبو هريرة: قال لي النبي ﷺ: ألا أريك الدنيا جمعًا بما فيها؟ قلت: بلى. قال، فأخذ بيدي وأتى بي إلى واد من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم، ثم قال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم، ثم هي اليوم تساقط جلدًا بلا عظم ثم هي صائرة رمادًا رمددًا، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها وقذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم ولباسهم ثم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكيًا على الدنيا فليبك! فما برحنا حتى أشتد بكاؤنا.
وقال ابن عمر: أخذ رسول الله ﷺ ببعض جسدي فقال: يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى. أيها الرجل، إن كنت لا تدري متى يفاجئك الأجل فلا تغتر بطول الأمل، فإنه يقسي القلب ويفسد العمل، وقد غير الله أقوامًا مد لهم في الأجل فقست منهم القلوب، وطال منهم الأمل، فقال:
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد: ١٦)
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
يا أيها الرجل ألق سمعك وأعرني لبك.
فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن بأنك لا تبقى إلى آخر الدهر
أين آدم أبو الأولين والآخرين؟ أين نوح شيخ المرسلين؟ أين إدريس رفيع رب العالمين؟ أين إبراهيم خليل الرحمن الرحيم؟ أين موسى الكليم من بين سائر النبيين والمرسلين؟ أين عيسى روح الله وكلمته رأس الزاهدين وإمام السائحين؟ أين محمد خاتم النبيين؟ أين أصحابه الأبرار المنتخبون؟ أين الأمم الماضية؟ أين الملوك السالفة؟ أين القرون الخالية؟ أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان؟ أين الذين اعتزوا بالأجناد والسلطان؟ أين أصحاب السطوة والولايات؟ أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات؟ أين الذين قادوا الجيوش والعساكر؟ أين الذين عمروا القصور والدساكر؟ أين الذين أعطوا النصر في مواطن الحروب والمواقف؟ أين الذين اقتحموا المخاطر والمخاوف؟ أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب؟ أين الذين تمتعوا في اللذات والمآرب؟ أين الذين تاهوا على الخلائق كبرًا وعتيًا؟ أين الذين استلانوا الملابس أثاثًا ورئيًا؟ ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ (مريم: ٧٤)
أين الذين ملأوا ما بين الخافقين عزًا؟ أين الذين فرشوا القصور خزًا وقزًا؟ أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وهزًا؟ أين الذين استذلوا العباد قهرًا ولزًا؟ ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ (مريم: ٩٨) . أفناهم والله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم، وأخرجهم من سعة القصور وأسكنهم ضنك القبور، تحت الجنادل والصخور، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم فعاث الدود في أجسامهم، واتخذ مقيلًا في أبدانهم، فسالت
1 / 7